سنة الغناء على الخراب

TT

حبة أخرى من حبات الزمن تتهيأ للانفراط والبلدان العربية في تراجع مخيف إلى الوراء.

هكذا هو وضعنا: تقهقر وتدحرج وسبات عميق ولامبالاة وعقل عاطل عن التفكير، وسواعد لا تجيد الإنقاذ.

طبعا لا أحد كان ينتظر حدوث معجزة والقفز إلى الصف الأول، وترتيب فوضانا خلال سنة نفعل فيها عجب العجاب، ولكني من أولئك الذين كانوا ينتظرون أن نغادر غرفة الإنعاش ونأوي إلى غرفة المريض العادي، فالسنة هي أيام وشهور طويلة، وتتسع لبداية فعل ما في طريق صحيحة، تستند إلى صوت العقل ومراعاة ما هو كائن، والدفاع بروية وبواقعية على ما يجب أن يكون. ما زالت الأغلبية تلوك نفس علكة نظرية المؤامرة، وتصر على صبغ الصراع، بلون ديني لا غير.

إن إلقاء نظرة بانورامية على وضع البلدان العربية في هذه السنة التي بلغت أسبوعها الأخير، سينتهي بنا إلى اختزال الأوضاع في صورة واحدة: الدوران في حلقة مفرغة ومفزعة.

بل أن مع نهاية كل عام، نجد أن الأخطار قد تراكمت أكثر والتهديدات أصبحت أكثر جدية وشراسة.

وإذا ما أردنا حصر السلبيات العديدة، فإنه بالإمكان التوقف عند خطين عريضين، الأول يتعلق باستمرار ظاهرة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، والمسألة الثانية تتمثل في تماطل الدول العربية في مشروع الديمقراطية والتعاطي معه كالوباء.

ولعل حمام الدم الرهيب الذي أودى بحياة ستين نفس عراقية في النجف وكربلاء قبل أيام، والتفجيرات التي تعرضت لهاالسعودية خلال هذا العام يقودانا إلى طرح الأسئلة التالية:

إلى أين نحن ذاهبون؟ وأي حكمة في هذه الحروب الأهلية المتسترة؟ وهل أصبحنا نستلذ بقطع رؤوس بعضنا البعض؟

إن العلامة الجوهرية التي ترمز إليها موجات العنف، هي أننا لم نصل إلى حد الآن إلى صياغة أسئلتنا الحقيقية بشكل صحيح. حالة مسلحة من سوء الفهم والتفاهم تسود ردود الأفعال، ومحاولات لزيادة الطين بلة. وإذا كان في البداية عنف الجماعات الرافعة لشعار الدين الإسلامي موجها إلى الآخر، فإن التطور الجديد يتمثل في توجيه العنف نحو الـ«أنا» العربية الإسلامية. وفي الواقع نسجل اختلاط الحابل بالنابل، فصار التلثيم وإطلاق اسم مستوحى من الدين الإسلامي حرفة سهلة يمتهنها كل من هب ومن دب. وفي كل مرة تبث لنا شاشات الفضائيات العربية ولادة جماعة إرهابية جديدة، تبشر بقطع الرؤوس والذبح والاختطاف والقتل. وأظن أن الذين يبذرون الوقت في تبرير ظهور هذه الجماعات والدفاع عن قضيتهم الغائبة والمغلوطة، هم في الحقيقة يقدمون الدعم إلى أرباب العنف الذاتي وهم في كامل وعيهم.

إن ظاهرة استمرار العنف واستهداف الأنظمة وعسكرة الحوار والحلول، كلها علامات تؤكد أننا لم نخير الانتحار على التقدم والتأزم على الانفراج، فالأنظمة مهما يكن فسادها وتواطؤها، الذي هو في الحقيقة محاصر بضغوطات البعض القليل منها فقط معلوم، فإن ذلك الفساد يقاوم بالنشاط السياسي المعارض، وبالنقد وبفتح حرب أفكار ومواقف وخطط مستقبلية بديلة. ومن يراجع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، يدرك مع مرور الوقت، جسامة ذلك الخطأ وانعكاساته الخطيرة على البلدان العربية، التي منذ تاريخ حصولها والمجتمعات العربية تدفع الفواتير تباعا.

لذلك فقد حان الوقت إن لم يكن قد تأخر كثيرا للإيمان بالحوار، وبالاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة لتمرير المواقف المعارضة والناقدة وممارسة حرية التعبير، إذ أن العنف لا يتغذى إلا من العنف، ولا يولـّد سوى عنفا أكثر قدرة على الخراب، فالشعوب تتقدم بصراع الأفكار والبرامج البديلة والمحققة للقوة والتطور والتقدم، ومن العبث الاستمرار في سياسة التكفير واحتكار الدين، الذي هو ملك للناس جميعا، فاليأس من سلاح العقل والقلم والعمل، هو يأس من إنسانية الإنسان ومن فعله الأساسي. إن إضعاف المجتمعات العربية وأنظمتها الضعيفة بطبيعتها، يصب في مصلحة من تعده تلك الجماعات عدوها الأول، ومثل هذه النتيجة لا يمكن تبريرها حتى بمنطق تقاطع المصالح!

وإلى جانب استمرار ظاهرة العنف والتفجيرات، قصد إظهار عجز الدول، وبالتالي تبرير احتلالها، فإننا نلاحظ أن البطء الشديد في التسليم بحتمية الديمقراطية كخيار لا بد منه، بات أمرا مفضوحا. والراجح أن بعض الأنظمة العربية تود أن تقاد إلى الديمقراطية بالسلاسل، وتمارس أسلوب المماطلة وتمثيل دور القابل بالديمقراطية، في حين أن واقع الانتخابات التي حصلت هذه السنة في بعض البلدان، يشير إلى الاستمرار في ضرب الأحزاب المعارضة، وتضييق الخناق عليها لتبقى محدودة الأثر والتأثير، إضافة إلى الهيمنة على وسائل الإعلام والاتصال كأولى فضاءات ممارسة الحرية.

هناك مواصلة لسياسة الإقصاء بشكل غير مباشر، رغم أن الأزمات الراهنة تشترط لحلها تكاتف الآراء وتحاورها، ذلك أن الغرق لا يهدد طرفا بعينه بل كل من في السفينة.

لا شك طبعا أن هناك على الأقل نصف رغبة للإصلاح، ولكن الظاهر أن مفاتيح الإصلاح واستراتيجياته وشروطه بعضها ما زال مرفوضا، والبعض الآخر مجهولا، لذلك فهذه السنة التي مرت، قد زادت في تعرية العجز العربي، وتخبطه في معالجة مشاكله، وعناده الذي يكشف مرض التعنت والعناد، الفارغين من كل الأسباب والمبررات.

فهل تكون السنة المقبلة سنة العقل ومقولاته الرصينة؟

وهل سنتجاوز رفضنا الوقوف أمام المرآة، كي نعرف ما لنا وما علينا، بدون مغالطات أو مازوشية قاتلة؟

فلنجرب كما جربنا عديد الأشياء، لعبة الجهاد بالعقل، وبالعمل، كي نغني للحياة، لا للخراب!

[email protected]