وداعا للقلم

TT

لا بد أن لاحظ جمهور القراء المواظبين على قراءة هذه الزاوية، حملتي المستمرة على المثقفين العرب وتحميلهم المسؤولية عن إلقاء العالم العربي في ما يسميه علماء الفلك بـ «الفجوة السوداء» Black Hole، التي راح يضيع فيها نسياً منسياً خارج الزمان والمكان. كنت أتصور نفسي فريداً في هذا الاجتهاد، لكن خيبتي كانت كبيرة عندما بدأت أجد الآن أن كرهي للمثقفين هو في الواقع جزء من كره عالمي لكل المثقفين في الدنيا. التصويت لجورج بوش وفشل كيري والحزب الديمقراطي جزء من هذا الكره للمثقفين والشك فيهم. هناك انحسار عالمي وتراجع لجبهة الثقافة والفكر. ورغم صدور ألوف الكتب والمجلات والصحف سنوياً، وكل هذا الانتشار للفنون على نطاق العالم، فإنها لم تنل ما كانت تناله مجلات مثل النيوستيتسمان وتربيون وبنش من الاهتمام والصدارة. وبالطبع انهار كلياً الفكر الماركسي واختفت مجلاته ومكتباته من الوجود. يقال نفس الشيء عن مدرسة التحليل النفسي والسريالية والوجودية.

ساهم انهيار المنظومة الشيوعية في أوربا الشرقية والفشل النسبي للاشتراكية في أوربا الغربية والعالم الثالث في هذا العزوف عن الفكر والكره للمثقفين. وكان لانتصار أمريكا (التي تفضل عبادة المال على عبادة الفكر)، وهيمنتها على العالم دوره في هذه الموجة. وهذه نقطة تجرنا إلى ظاهرة العزوف الانغلوسكسوني عموما عن الفكر، فالأولاد في المدارس الأوربية يقضون وقتاً أكبر في دراسة النواحي الفكرية مما يقضيه أولاد الإنجليز والأمريكان. وعندما تدخل بيتاً أوربياً تجد فيه من مظاهر الثقافة، كالكتب والآلات الموسيقية، أكثر مما تجده في بيت إنجليزي، أو أمريكي مشابه في المستوى الاقتصادي والمهني.

برود الأنغلوسكسون نحو الفكر يعود لما حدث في بريطانيا في القرن السابع عشر عندما ثار كرومويل على العرش وأعدم الملك وأعلن جمهورية الكومنويلث بعد حرب أهلية دامية. قاد هذه الحركة المثقفون من خريجي المدارس الثانوية. وبعد فشل حكومة الكومنويلث وإعادة النظام الملكي للبلاد، بما يسمى بالثورة المجيدة، خلص الإنجليز الى الاعتقاد بأنك لا تحصل من الثقافة والمثقفين غير المشاكل ووجع الرأس، أولى بك أن تحصل على عمال وفلاحين وشغالين يغنون البلاد بسواعدهم.

يظهر ان البشرية، وبضمنها العالم العربي، توصلت إلى هذه النتيجة ايضا، كل هذه الحروب والثورات والانقلابات والحروب الاهلية سببها المثقفون. انظروا إلى ما تبثه حالياً الفضائيات العربية، وفي عالمنا العربي زادوا الطين بلة بانتهازيتهم وأنانيتهم، يرسلون أولادهم إلى أوربا ويحثون أولاد المساكين على الاستشهاد، يكتبون عن النزاهة والعدالة ويمدون أيديهم في كيس الخزانة العامة، يتكلمون عن الوطنية والوحدة العربية ويعجزون حتى عن توحيد أسماء الشهور، أتعس من كل ذلك، أن المثقفين الغربيين عذبوا الناس بمحاولة دفعهم إلى المستقبل، ومثقفونا يعذبون الناس بمحاولة إرجاعهم إلى الماضي.