أميركا: حالة من التشاؤم حول مستقبلها في العراق

TT

شكلت معركة الفلوجة نقطة تحول حاسمة في مسعى القوات الأميركية للسيطرة على العراق ، بعد أن تم احتلاله رسميا. كان الاعتقاد الأميركي السائد، والذي لقي التأييد من رئيس الوزراء إياد علاوي شخصيا، أن ضرب المقاومة العراقية في المدينة سيؤدي إلى إنهائها. أما ما حصل عمليا على الأرض، فهو أن الجيش استطاع تدمير المدينة، واستطاع تدمير بنيتها التحتية بحيث أصبحت غير صالحة للعيش، مما اضطر أهلها للنزوح عنها (350 ألف نسمة)، وأعلن بعد ذلك سيطرته الكاملة على مدينة خالية من السكان. ولكن ما هي إلا أيام حتى تبين أن هذا الاستنتاج الأميركي ليس صحيحا، وبرزت هنا ظاهرتان:

الأولى: أن المقاومة عادت لتمارس عملياتها ضد الاحتلال داخل أحياء الفلوجة المدمرة.

الثانية: أن المقاومة وسعت نطاق عملياتها لتشمل مدنا أخرى في بعقوبة وسامراء وبخاصة في الموصل التي شهدت مؤخرا أكبر عملية عسكرية ضد قوات الاحتلال أدت إلى مقتل 25 أميركيا دفعة واحدة.

وهنا ظهرت لغة أميركية جديدة ، بدأت تتحدث عن المقاومة العراقية باحترام، وبدأت تشير إلى كفاءتها القيادية والتنفيذية ، واختفت نغمات الحديث عن المقاومة العراقية باعتبارها عملا جانبيا، يقوم به أشخاص محبطون، تم وصفهم طويلا بأنهم «فلول» النظام السابق، أو «المجرمون» الذين تم إطلاق سراحهم قبل الحرب، أو «الأجانب» القادمون من الخارج ، أو «جماعة الزرقاوي». وسنقوم هنا بتسجيل هذه الأقوال الأميركية ، لأهميتها، ولأنها تشير الى احتمال ما قد يحدث في المستقبل أيضا.

في 19 ديسمبر الحالي نقلت وكالة رويترز عن الميجر جنرال ستيفن سبيك قوله: «إن القوات التي تقودها الولايات المتحدة تواجه عدوا متطورا للغاية». وعقبت الوكالة قائلة: يعد هذا تغيرا في نبرة الحديث عن «حشد من العصابات من عهد الرئيس المخلوع صدام حسين يقاتلون قانطين». وأضافت الوكالة: بالنسبة للبعض كان اعتراف قادة كبار في الجيش الأميركي بأن المقاتلين الأعداء بارعون، وأن كفاءتهم تتحسن، علامة ربما على أنهم يرون أنه لا يمكن كسب الحرب في نهاية الأمر.

ونقلت الوكالة عن تشارلز هيمان رئيس تحرير موسوعة (غينيز) لجيوش العالم قوله «الأميركيون يقتربون من حدود قوتهم العسكرية التقليدية. ليس لديهم ما يكفي من جنود المشاة». ولكنه رفض المقارنة بحرب فييتنام، واستطرد قائلا «إنها أكثر شبها بلبنان تحت الاحتلال الإسرائيلي في أواخر الثمانينات ، في النهاية كان لا بد أن يرحل الإسرائيليون».

ونقلت الوكالة عن سايمون هندرسون خبير العراق في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى قوله «النظرة المتشائمة تقول إن أوقات اليأس تحتاج إلى إجراءات يائسة ، والأميركيون ينقبون عن أفكار ربما تصلح أو لا تصلح، وربما يكون نقص القوات هو المشكلة الرئيسية».

وتطرقت الوكالة إلى معركة الفلوجة، ونقلت عن اللفتنانت جنرال لانس سميث نائب قائد القيادة المركزية الأميركية قوله «إن المقاتلين أصبحوا أكثر فاعلية ، خصوصا في اعتراض القوافل التموينية».

في 16 ديسمبر الحالي عقد الجنرال ريتشارد مايرز رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية ، مؤتمرا صحافيا في المنامة قال فيه: إن أنصار النظام السابق في العراق يشكلون مصدر التهديد الأهم بالمقارنة مع جماعة الزرقاوي». وقال «إن الزرقاوي يتزعم مجموعة من المقاتلين الأجانب وبعض العراقيين، وبإمكانه القيام بهجمات مثيرة ، ولكن مصدر التهديد الأهم هي الهجمات التي يقف وراءها عناصر النظام السابق». وكانت هذه أول إشارة من مسؤول عسكري أميركي بهذا الخصوص.

وفي 8 ديسمبر الحالي كتب دوغلاس جيه: «حذر تقرير سري أرسله رئيس محطة وكالة المخابرات المركزية في بغداد، من أن الموقف في العراق يتدهور، وربما لا يعود إلى طبيعته قريبا». ورئيس المحطة الذي لم يعلن اسمه هو حسب تعريف الكاتب: ضابط كبير، يحظى باحترام داخل الوكالة، ويعمل تحت إدارته في بغداد 300 شخص، وبذلك تكون بغداد أكبر محطة استخبارية أميركية في الخارج منذ حرب فييتنام. ويذكر الكاتب أن الجنرال (جورج كاسي) قائد القوات الأميركية في العراق، اطلع على التقرير ولم يعترض عليه.

وفي 2 أكتوبر الماضي ذكرت وكالة رويترز نقلا عن مصادر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، أن شهر أيلول/سبتمبر كان من أكثر الشهور التي شهدت سقوط جنود أميركيين قتلى (76 قتيلا). واعترف رونالد رامسفيلد وزير الدفاع في مقابلة إذاعية: بتزايد أعمال العنف من جانب المقاومين وقال «أعتقد أنها ستزداد سوءا"».

وقال محللون للشؤون الدفاعية: إن البنتاغون يناضل من أجل رسم استراتيجية ناجحة ضد تمرد آخذ في الازدياد والانتشار.

وقال تيد كاربنتر من معهد كاتو للأبحاث: «إن عدد الهجمات اليومية التي يشنها المقاتلون تتزايد، مما يشير إلى تدهور الوضع الأمني. أعتقد أننا نخسر ببطء، ولكن بشكل مضطرد، أعتقد أننا نغوص في الرمال المتحركة بشكل أعمق».

قيلت كل هذه المواقف والتحليلات، قبيل معركة الفلوجة وبعدها. ولكن مخاطر الوضع الأميركي في العراق، كان موضوعا للدراسة الأميركية المتأنية قبيل سبعة أشهر من ذلك. ففي 10 مايو 2004 كتب توماس ريكس (خدمة واشنطن بوست) مقالة مطولة اشتملت على تقييم للوضع من قبل العديد من الشخصيات ذات الصلة، وجاء فيها:

قال الميجر جنرال تشارلس سواناك قائد الفرقة 82 المحملة جوا في العراق: «إن الولايات المتحدة ما تزال منتصرة على المستوى التكتيكي، أما على المستوى الاستراتيجي فأعتقد أننا يمكن أن نخسر الحرب».

قال الكولونيل بول هيوز الخبير الاستراتيجي منذ أيام فييتنام، وأول مدير للتخطيط الاستراتيجي لسلطات الاحتلال في العراق: «أوافق على رأي سواناك. إن نمط كسب المعارك الجزئية وخسارة الحرب الكلية هو ما كان يميز الوضع الأميركي في فييتنام ، وما لم نتأكد من وضوح أهدافنا فإننا سنخسر في النهاية، وبعد ثلاثين عاما من حرب فييتنام أفكر في أننا يمكن أن نكسب كل معركة، ومع ذلك نخسر الحرب، لأننا لا نفهم طبيعة الحرب التي نخوضها».

قال لاري دايموند أحد كبار المستشارين السياسيين في سلطة الاحتلال الأميركية: «إن الولايات المتحدة لم تخسر، حتى الآن، الحرب، ولكنها قد تواجه خطر ذلك ، إن أمل الانتقال الناجح نحو الديمقراطية أمر مشكوك فيه. الوضع غير محسوم في الوقت الحالي، وهذا هو الخطر الذي نواجهه».

وقال ضابط استخبارات عسكرية كبير، خبير بشؤون الشرق الأوسط: «إن إدارة بوش بحاجة إلى أن تعيد النظر في سلوكها وفي طريقة معالجتها للوضع في العراق وفي المنطقة ، وإن فكرة أن العراق يمكن أن يتحول على نحو معجز وسريع إلى مثال للديمقراطية التي ستغير الشرق الأوسط كله ، تتطلب سبيلا فيه الكثير من السحر والغطرسة الثقافية، لكي يجري الاعتقاد بها».

ومن قلب هذه الصورة السوداء، تبرز فكرتان أميركيتان:

الفكرة الأولى: يطلقها جنرال كبير في البنتاغون ويحمل فيها مسؤولية هذا الوضع إلى وزير الدفاع (رونالد رامسفيلد)، وإلى نائبه بول وولفويتز، ويقول: «لا أعتقد أنه كانت لدينا استراتيجية واضحة للحرب ، أو نهاية واضحة للعمليات، أو مخرج متفق عليه، قبل أن نشرع في خوض هذه الحرب ، وإن مكتب وزير الدفاع رفض الاستماع إلى نصائح العسكريين، ورفض الاهتمام بالأفكار التي طرحوها».

والفكرة الثانية: أطلقها بيتر غالبريت السفير الأميركي السابق في كرواتيا، في مقالة له في مجلة (نيويورك ريفيو أوف بوكس)، ودعا فيها إلى تقسيم (مهذب) للعراق فقال: «إن أفضل الآمال في إبقاء العراق موحدا، وبالتالي تجنب حرب أهلية، يتمثل في السماح لكل جماعة رئيسية من السنة والشيعة والأكراد، في أن تحقق ، في الحدود الممكنة، النظام الذي تريده».

إن هذه الفكرة ، تبدو في خضم ما ذكرناه ، أكثر الأفكار الأميركية تفاؤلا، رغم ما تنطوي عليه من مصير أسود. ولكن ما هو أخطر منها، أن كل هذا الحديث الأميركي عن العراق يخلو من أي ذكر للعراقيين، أو للحكومة العراقية، أو لأياد علاوي رئيس الوزراء. فالعراق بالنسبة للأميركيين هو: الفلوجة، والزرقاوي، وأنصار النظام السابق، ولا شيء غير ذلك.