مأدبــة العــراق

TT

تُعد دعوة الرئيس الأميركي جورج بوش لإيران وللشقيقة سوريا، قبل أيام، بالكف عن التدخل في الشؤون العراقية تحذيراً قوي اللهجة، خاصة أنه كان يتحدث بعد محادثات مهمة مع واحد من أبرز حلفائه، رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني. وإذا كانت الأبعاد التحذيرية لخطاب واشنطن تنذر بتعظيم الإجراءات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية الضاغطة على دمشق وطهران، فإنها يمكن أن تلخص للقيادتين السورية والإيرانية في معنى واحد مفاده إن ما يجري في العراق إنما هو مشروع الولايات المتحدة الأميركية، وإن عملية تعامل دول الجوار العراقي مع هذا المشروع، ينبغي أن تقوم على معطيات هذا الوعي وهو: أن الأمر لا يتعلق بدولة مجاورة عادية، لأن الجوار الآن لم يعد عراقياً ـ سورياً ولا عراقياً ـ إيرانياً، بقدر ما هو جوار بين هاتين الدولتين وبين الولايات المتحدة الأميركية، بالنيابة والاستبدال. لذا قصد الرئيس بوش بهذا التحذير أن القيادتين الجارتين ينبغي أن تعيا هذا البعد المشحون بالدلالات.

ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، فصل التحذير الأميركي أعلاه عما قاله (بعد يوم واحد) وزير الدفاع العراقي، السيد حازم الشعلان، حيث كرر الشكوى من الدورين الإيراني والسوري في الشأن العراقي، مركزاً على إيران بوصفها «عدو العراق» رقم واحد منذ أقدم العصور، وهو بعد تاريخي لا حاجة للارتداد إليه في العلاقات الدولية والإقليمية المعاصرة، (كان التعميم صحيحاً أم لا)، خاصة بعدما تذوق البلدان مآسي حرب السنوات الثماني التي أزهقت أرواح ما لا يقل عن مليون نسمة، ناهيك من آثارها الإجتماعية والنفسية التي لم نزل نحصدها في المشاهد الدموية البائنة اليوم بالشارع العراقي. ولعل هذا هو ما برر خروج الرئيس العراقي غازي الياور بتصريح تالِ، يؤكد فيه بأن ما صرح به وزير الدفاع، لا يمثل سوى رأي شخصي، لا ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد كإشارة عدائية، يراد لها أن تقيم جداراً فولاذياً بين «الأخوة الأعداء» في العراق وإيران. هذه لغة أكثر واقعية، خاصة أننا في عراق اليوم لا نقوى على مقاومة التدخل في شؤوننا الداخلية، بينما تمتلك هذه الدول من الأدوات والوسائل ما يمكن استخدامه بسهولة متناهية لزعزعة الاستقرار الداخلي، ووضع العقبات في طريق الانتخابات القادمة، بدون تدخل واضح المعالم يمكن تشخيصه وإدانته. ففي إيران توجد ميليشيات وقوى عراقية يمكن أن تخترق الحدود، وتوصل الأموال والسلاح إلى أعماقه، بينما يستقر الكثيرون من «أعداء الأمس»، من الذين كانوا يعتبرون دمشق خائنة، في سوريا الشقيقة. ولذا فإن فعاليات هؤلاء مهما كان نوعها، إنما هي فعاليات تعد «عراقية»، لا إيرانية ولا سورية، الأمر الذي يعقد المعضلة على نحو أكبر.

كما أن لهذا الموضوع بُعداً آخر أكثر خطورة بقدر تعلق الأمر بالتعهدات والضمانات، التي قدمتها دول الجوار العراقي في المحافل الدولية من أجل تطمين العراق، وقبل أسابيع عقد مؤتمر دولي في شرم الشيخ بمصر حيث تنادت حكومات دول الجوار، صديقة أميركا أو غير الصديقة، من أجل تقديم مثل هذه التطمينات، وإن كان البعض يقدمها على مضض، وبالكثير من تعابير التبرم والاستياء كإسقاط فرض. بيد أن هذا المؤتمر الدولي حول العراق كان تجسيداً لا غبار عليه للسطوة والهيمنة الأميركية على المنطقة، خاصة إنها جمعت التقدميين والمحافظين، واليساريين واليمينيين على مبدأ واحد وهو: المساعدة على حفظ الأمن والوحدة العراقية عن طريق عدم التدخل، وعدم السماح للـ«آخرين» بالتدخل في شؤونه الداخلية، وهو على أبواب انتخابات مهمة قد تقرر شكله وشكل النظام الحاكم فيه بالمستقبل.

ومن ناحية ثانية، يلقي تحذير الرئيس الأميركي، ومن ثم الوزير العراقي، الشك على جميع الأنشطة المثابرة والمحمومة التي شهدتها عواصم المنطقة حول ذات الموضوع. فقبل مدة قصيرة استضافت طهران (المتهمة بالتدخل في الشأن العراقي)، مؤتمراً مهماً لوزراء داخلية دول الطوق العراقي. وقد رأينا الأجواء الإيجابية لهذا المؤتمر، ليس فقط في تبادل الابتسامات والمصافحات في صالات الاستقبال والولائم، بل كذلك فيما تمخض عنه من تأكيدات على تجنب التدخل، وعدم السماح للقوى «غير المرئية» بعبور الحدود. إذاً، هل يعني التحذير الأميركي «ثم العراقي» بأن مثل هذه المؤتمرات، التي غالباً ما تحاط بالكثير من الضوء والإعلان، إنما هي «ضحك على الذقون»، لأنها لا تتجاوز بروتوكولات التوكيد والحرص والتمني؟ تحذيرا واشنطن وبغداد يعنيان ويؤشران مثل هذه الخلاصة بكل دقة، لأن تواصل التذمر والشعور بالتدخل (بشكل مباشر وغير مباشر) في العراق، إنما يفضي إلى حقيقة أن قرارات مثل هذه المؤتمرات والاجتماعات لا تتجاوز أن تكون «حبرا على ورق».

وإذا كانت الانتخابات القادمة تمثل محاولة عراقية محلية، للاضطلاع بإدارة البلاد من قبل أبنائها، فإنها في حقيقة الحال، وبغض النظر عن نتائجها، لا يمكن قط أن تنقذ بلاد الرافدين من تطلعات وتوثبات دول الجوار والدول الكبرى في العالم نظراً لأهميته. فلا يمكن للمرء أن يقول: «دعونا وشأننا» اليوم، لأن أحداً لن يترك العراق وشأنه، حتى إن كان هذا الطرف أو ذاك، يبدو الآن بريئاً و«متعففا» لا مصلحياً، لا يتمنى لهذا البلد غير الاستقرار والازدهار. وحتى مع مثل هذه الحال، فعيون هؤلاء تترقب الاستثمارات الاقتصادية والتجارية الواعدة التي تكمن في العراق. ولذا فإن تمنيات بعض الدول القريبة أو البعيدة بالاستقرار والسلام، لا تخلو من مصالح من نوع ما، الأمر الذي يجمع الكل في «سلة المتدخلين»، ولكن بتنوعات وأساليب ودرجات مختلفة. هذا ما سيزيد من تحول هذا البلد إلى «ساحة تنافسات دولية» قد تكون دموية ومميتة في أحيان كثيرة. وتكون هنا الضحية النهائية هي الشعب العراقي ذاته الذي أُسقط في دوامة هذه المصالح والمشارب والمنظورات المتناقضة والمتنافرة.

لا نريد هنا أن نكيل التهم إلى هذه الدولة الجارة أو تلك، باعتبار تدخلها في الشؤون العراقية، ولكن نريد أن نقول بصوت عال، إن جميع دول الطوق العراقي، زيادة على الدول الكبرى، لا يمكن أن تترك العراق لشأنه، لأنها تجد فيه حلبة لممارسة أنشطتها، ولتصفية الحسابات ولتبادل اللكمات مع منافسيها، بعد أن خُذل هذا البلد وتم اقتياده إلى هذا المصير التراجيدي: فالجميع يريدون أن يقضموا شيئاً من الكعكة العراقية أو يملأوا بطونهم من المأدبة العراقية.