مقياس المدنية

TT

كنت قد سألت زميلتي الصحافية جل بيهان المختصة بالمطاعم والفنادق، كيف تُقيِّمين مستويات المطاعم؟ قالت: من مراحيضها. عندما اذهب لكتابة تقرير عن مطعم، لا أقرأ قائمة الطعام ولا الأسعار ولا اتذوق طبخهم ولا ادقق في نظافة المطعم أو تزويقه. اذهب رأساً إلى دورة المياه. هناك تجد المستوى الحقيقي للمطعم.

ما قالته السيدة بيهان وجدته ينطبق ايضاً على البيوت. فكلما دعاني أحد إلى بيته، تلمست مستوى الأسرة من احوال حمامها. توسعت اخيراً في هذا المقياس المراحيضي فرحت أطبقه على المستوى الحضاري للدول والأمم. عندما تدخل المراحيض العامة في السويد تستمع وانت تقضي حاجتك إلى موسيقى غريك وبتهوفن وهاندل ونحوهم. وحالما تخرج تجد امامك فتاة يافعة القوام بثوب ابيض نظيف تُعد لك منشفة نظيفة جديدة تنشف بها يديك بعد الغسل بالماء الحار والصابون المعطر ـ ثم تودعك بابتسامة جميلة تجعلك تتمنى لو حالفك الحظ ان تقضي بقية حياتك في مرحاض سويدي. هكذا كان الحال، على الأقل حتى تدفق على السويد المهاجرون العرب والأكراد والافغان.

هذا مقياس قلما اخطأ في تقييم مدنية الدول في حساباتي. لا اقرأ اي تقرير اقتصادي عنها أو اسمع عن درجة نموها الاجمالي أو نسبة الأمية فيها. ادخل الى مراحيضها واكتشف كل شيء. وهذا ما فعلته عند زيارتي الاخيرة لعمان. كنت على الكورنيش الجميل عندما لزمتني الحاجة إلى دورة مياه عامة. رحت افتش عنها في كل مكان. عبثاً اضعت محاولتي. دخلت أحد المطاعم العصرية لأجبر نفسي على العشاء طمعاً بمرحاض، فلم أجد. سألت النادل فهز رأسه بالنفي. قلت له يا ولدي، قبل ان يدخل الانسان الطيب الى بطنه عليه ان يخرج الخبيث منها. لم يفهم شاعريتي.

كلما تضيق بك السبل في مدينة فاقصد مسجدها. وإلى ذلك المسجد المهيب على الكورنيش اتجهت. سألني الخادم. مسلم؟ الحمد لله. ومن العراق ولا يحمد على مكروه سواه. لاثبت اسلاميتي توضأت وصليت على تقاليد السنة في مسجد شيعي. لم يعبأ أحد بطقوسي المختلفة. ابتسموا تلك الابتسامة، العمانية السمحة. فأهل مسقط يتمسكون بمبدأ لا اكراه في الدين.

لم اسمع موسيقى بتهوفن في مراحيض ذلك المسجد. لكنهم وضعوا نعالا نظيفة امام باب الكابينة لاستعمال الزائر وهو ما لم أجده في السويد، وإلا فالنظافة على ذات المستوى.

الظاهر ان بلدية مسقط تعتبر قضاء الحاجة مهمة دينية فتركتها للمساجد. هذا أمر يصلح للدين ولن يصلح للسياحة. سألوا اللورد بدفورد عندما حول قلعته التاريخية الى منتجع سياحي، عن أولويات مثل هذا المشروع. فقال: عليكم بالمراحيض. هذا ما يريده الزائر والسائح قبل كل شيء. أضيف إلى ما قاله حضرة اللورد فأقول وكذا الكاتب الصحافي.