الإعلام الحرّ.. ضحية جديدة للحرب على الإرهاب

TT

شكّل القرار الفرنسيّ بوقف بثّ قناة المنار عبر قمر اليوتلسات، وفسخ الاتفاق مع إدارتها والقرار الأميركي، باعتبار المنار «مؤسسة إرهابية»، تتويجاً طبيعياً لاستراتيجية استهداف الإعلام والإعلاميين أو استخدامهما فيما تمّت تسميته «الحرب على الإرهاب»، وحجب المعلومات عن الرأي العام، خاصة ما يتعلّق بجرائم الحرب والتعذيب في فلسطين والعراق. فجميعنا يتذكّر الصدمة التي أُصبنا بها حين فرض شارون حظراً إعلامياً على مدينة جنين، كي يرتكب جيشه ما يحلو لجنوده من جرائم بحق سكانها العزّل، بعيداً عن الكاميرات الناقلة للخبر والصورة، وقبل وبعد ذلك عمدت قوات الاحتلال الإسرائيلية إلى قتل الصحافيين وناشطي حقوق الإنسان الدوليين، من توماس هورنذل إلى جيمس ميللر واراشيل كوري، بحيث انتهى ذلك الزمن الذي كان يتجرأ إعلامي غربي على التجوّل في الضفّة والقطاع في أي وقت يشاء، ليسجّل ما يشاهده من ارتكابات خطيرة، تمثّل انتهاكاً فاضحاً لاتفاقيات جنيف وقوانين حقوق الإنسان.

ومع بداية الحرب الأميركية على العراق، تمّ استهداف وقتل الإعلاميين المعروفين بالبحث عن الحقيقة، فقتل طارق أيوب وغيره كُثر، وضُرِب حظر إعلامي خلال اقتحام الفلّوجة جعل من المستحيل على أحد معرفة ما يتم ارتكابه بحق السكان العراقيين الأمنين في منازلهم. واشتدت وطأة هذا التوجّه مع اختراع مصطلح «الإعلام المرافق للقوات»، والذي يتحوّل فيه الخبر إلى تقرير رسمي بعد خضوعه لمراقبة قائد القوات، وتمّ تطبيق المثل الأميركي الذي يقول «أنا وأنت في الدبابة» أي أننا ملتزمان بمصلحة بعضنا بعضا، وهكذا أصبح الإعلامي والمحارب في الدبابة، يلتزم كلٌّ منهما مصلحة الآخر.

كان في قديم القرن العشرين، خاصة خلال الحرب الباردة ضجيج صاخب تقوم به الحكومات الغربية حول تميّزها عن الكتلة الشيوعية بالإعلام الحرّ، وكانت الدول العربية تقع ضمن دائرة الانتقاد، لأن «إعلامها حكومي» ولكن ها هي السنوات تدور فيختفي الاتحاد السوفياتي وآلته الإعلامية الرسمية، فتسارع الولايات المتحدة والدول الغربية لتبنّي الأسلوب السوفياتي، وللغرابة أيضاً يتأقلم «الإعلام الحرّ» مع هذا التغيير الجذري فيقبل بالرقابة العسكرية، وينشر الدعاية الحكومية، ويحجب الحقائق عن الرأي العام، ويدبج المقالات لتبرير احتلال العراق وقتل الفلسطينيين. وهكذا نرى حكومة الولايات المتحدة تقوم بنشر إعلامها الحكومي في العالم العربيّ، من خلال افتتاح محطة إذاعة «سوا» وتلفزيون «الحرّة» للترويج لكلّ ما تقوم به حكومة الولايات المتحدة، بالضبط كما كانت تفعل الحكومات الشرقية حين كانت شيوعية. ولم يتبدّل شيء سوى المصطلحات، فاليوم «الحرية والرفاه والديمقراطية» هي الكلمات السحرية التي احتلت مكان الشعارات والآيديولوجية الرنّانة في حينها. ولكن وللمفارقة وفي هذا الوقت أيضاً بدأت فضائيات إخبارية عربية مستقلّة تنقل الأخبار والبرامج والمعلومات خارج إطار الإعلام الحكومي وبدأ المشاهد الأوربي والأميركي يرى الصور التي تحجبها عنه فضائياته، ويسمع معلوماتٍ لا تنقلها إليه وسائل الإعلام الغربية والمنشغلة بشنّ حملات تشويه عنصرية موجّهة ضدّ العرب، بما في ذلك التحريض ضدّ دينهم وثقافتهم وتبرير الجرائم المرتكبة ضدّهم. وهكذا أصبحت وسائل الإعلام العربية تنقل الرأي الأميركي مباشرةً من فم بوش ورامسفليد، فيما تقوقع الإعلام الغربيّ داخل القفص الحكومي، لينقل الرأي الذي يسمح به الرسميّون الأميركيّون، من دون أن ينقل طبعاً أيّ صوت للعرب أو أي رأي للمسلمين. وكانت من النتائج الأولية لهذا الانقلاب الإعلاميّ الغربيّ، أنّ الشارع العربي كشف وهم «الإعلام الحرّ» الذي روّج له الغرب طويلاً. وازدادت مصداقية الإعلام العربي من خلال إصراره على التمسّك بالأصول المهنية للإعلام الحرّ، من حيادية في النقل واستقلال عن مصادر التمويل، والابتعاد عن صيغ التضليل والدعاية التي تستهدف حرمان الرأي العام من حقـّه، في معرفة حقيقة ما يجري على ارض الواقع، بدلاً من تصويره كما تريده هذه الحكومة أو تلك المجموعة السياسية. فهل الديمقراطية والتعددية بكل تقاليدها العريقة في فرنسا والولايات المتحدة حيث توجد عشرات الآلاف من محطات الإذاعة والتلفزة والصحف والمجلات والفضاء المفتوح للإنترنت، لا تستطيع تحمّل وجود محطة فضائية ناطقة بالعربية، تبثُّ من الضاحية الجنوبية في بيروت وتوصل للمشاهد ما يُرتَكَب بحقّ العرب من قتل وإذلال في فلسطين والعراق؟ كيف يتحمّل العرب المسلمون الرموز الدينية لمعتنقي الديانات الأخرى منذ قرون، رغم أنّهم هم المتهمون بالانغلاق، ويفشل الفرنسيون عند أول امتحان للتعايش مع معتنقي دين غير الدين السائد؟ لماذا فشلت «الديمقراطية» الفرنسية في تحمّل كلمة أو صورة تنشرها «المنار»، فقط لأنها تختلف عن الإعلام النمطيّ هناك؟ أَوَ ليس هذا هو الفضاء المسدود المغلق على نفسه وديكتاتورية الرأي الواحد؟ أو ليس هذا تعبيراً عن عجز المجتمعات الغربية عن التعايش مع الآخر؟ من هنا، فإن انتقاد وزير الدفاع الأميركي للقنوات العربية واتهامه لها بأنها «ذات نيّات سيئة» ليسا غريبين اليوم على السياسيين الغربيين، رغم أنهم يشاهدون برامج التشويه والتحريض العنصري الذي تبثه وسائل الإعلام الغربية يوميّاً ضدّّ العرب والمسلمين والإسلام. وتزأمن قرار إغلاق «المنار» في فرنسا واعتبارها «مؤسسة إرهابية» في الولايات المتحدة، مع منع الولايات المتحدة نشر التقرير الثالث حول التنمية البشرية في العالم العربي، ذلك لأنّ التقرير يتضمّن ملاحظات عن التأثير السلبي لاحتلال العراق على وضع الحريّات في المنطقة، وانتقادات لممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة. علماً أنّ الولايات المتحدة روجّت أشدّ الترويج للتقرير السابق لعام 2002 أو لأجزاء منه كانت تعرض لما يعاني منه العالم العربي من فقر وتخلّف من دون العودة إلى الأسباب السياسية وغيرها، التي قادت إلى هذا الوضع. أما تقرير 2003 فهو يشير إلى تحمّل «الخارج» بعض المسؤولية عن الأحوال اليائسة في العالم العربي، وهذا ما لا تريد إسرائيل أو الولايات المتحدة أن يسمع به الرأي العام، لأنّ الحديث عن الإصلاح في العام الفائت، أصبح بديلاً عن الحديث عن إنهاء الاحتلال والاستعمار والقتل العنصري الذي يعاني منه العرب في البلدان والمناطق العربية المحتلة.

إنّ إقفال قناة «المنار» والحملة المتوقعة على الإعلام العربيّ الحرّ، ومنع نشر تقرير التنمية البشرية لعام 2003 باسم الأمم المتحدة، كل ذلك يصبُّ في إطار السياسة الحكومية السائدة في الغرب بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، والمتمثلة في استخدام الإعلام وسيلة لخدمة أغراض سياسية، بما في ذلك تضليل الرأي العام العربيّ والعالمي، وإخفاء حقيقة ما يسبّبه الاحتلال من كوارث في منطقتنا. ولكنّ هذين العاملين المكشوفين أيضاً، واللذين يتناقضان مع بدهيات حرية الإعلام التي أكّدوا مراراً أنها من أسس الأنظمة الديمقراطية، يمثلان أيضاً برهاناً على أنّ التحرك العربيّ الإعلامي بدأ يؤتي أكله. وأنّ القنوات الفضائية العربية تكتسب مصداقية، وأصبحت تشكّل تهديداً يفضح عجز ميزانيات الدعاية الأميركية الحكومية عن تحقيق الأهداف السياسية، كما عجز سابقاً وحالياً التمويل الحكومي على ضخامته من حجب الحقيقة أو تشويه الوعي. فهل يمكن أن تكون ردّة الفعل بمعاملة الآخرين بالمثل، ومقاطعة قنواتهم من قبل الأفراد والمؤسسات الخاصة قبل الحكومات ردّاً مناسباً على مثل هذه الأعمال المُدَانَة، والمتمثّلة في كمِّ أفواه الإعلام الحرّ، أم أن ما يتم من مواصلة تحقيق حضور إعلامي عربيّ متميز على الساحة الدولية، يكتسب مصداقية وثقة المشاهد الغربيّ، لأن مشعل الكلمة الحرّة لا يمكن أن تطفئه قرارات الرقابة الحكومية ولا انتقادات المسؤولين الرسميين.

إن ما يجري يُري أننا بدأنا بالسير على الطريق الصحيح. وأنّ كلّ ما علينا فعله هو أن نتحلّى بالثقة بالنفس، وأن نؤمن بحقوقنا، ونساند بعضنا ونراهن على الرأي العام العالمي، ورأي الشرفاء الذين يرفضون الاحتلال والاستيطان والقتل والعنصرية حيثما كانوا.