سلام المسيح.. إعلان لنهاية العالم القديم

TT

من الغريب أن يصف المسيح السلامي قيادة المجتمع اليهودي بهذه الحدة: «أيتها الحيات أولاد الأفاعي الويل لكم يوم الدينونة». أو: «أيها القادة العميان إنكم كالقبور من خارج مطلي أبيض ومن داخل نجاسات وعظام أموات». وحول مشكلة اصطياد الأتباع والدراويش كان يصف (القادة) العميان بأنهم يجوبون السهل والجبل، ليصطادوا أحد المغفلين فيجعلونه ابنا لجهنم مضاعفاً؟ وكان ينصح الحواريين بالانتباه إلى رجال الدين الذين يعرِّضون عصائبهم وعمائمهم، ويحبون المتكأ الأول في الولائم، وان يناديهم الناس سيدي فقال: «جلس الكتبة والفريسيون على كرسي موسى، فكل ما قالوا لكم افعلوه فافعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا؟».

وهذا المرض ليس مسيحياً، بل ثقافي يصيب أهل أي ملة ونحلة. وينطبق على كل الدعوات والأديان. وقد خلت من قبلهم المثلات.

وفي الحديث أن المسلمين سوف يتفرقون بأكثر من اليهود والنصارى بثلاث وسبعين فرقة. وأوصانا القرآن أن لا يسخر قوم من قوم فعسى أن يكونوا خيرا منهم.

ومن الضروري أن نعرف شيئا عن ظروف مجيء المسيح عليه السلام. فهو واجه مجتمعا غارقا في الطقوس والتمسك بحرفية النصوص ومتدينا بطريقة مقلوبة. ومن ذلك نفهم أن كل رسول واجه مشكلة مختلفة; فموسى واجه الطغيان السياسي، كما هو الحال في الغابة العربية اليوم، في حين أن لوط كان يواجه تورط مجتمع بأكمله في الشذوذ الجنسي، فيما واجه شعيب الفوضى الاقتصادية كما هي في كارثة الدولار هذه الأيام. أما المسيح فقد بعث بين ظهراني قوم متشددين نصوصيين. كما هو الحال في بعض أوساط التشدد الإسلامي عندنا.

«مملكتي ليست من هذا العالم» و«من أخذ السيف بالسيف يهلك» و«جعل السبت للإنسان ولم يجعل الإنسان للسبت» هذه ثلاث جمل كان يعظ بها المسيح في الجليل. في إعلان نهاية العالم القديم. وأن القتل لا يحل المشاكل. وأن القوانين وضعت لخدمة الإنسان وليس العكس. وأن العبرة في النصوص روحها وليس كلماتها الميتة.

والمسيح جاء للتخلص من الطقوس، ولكن الكنيسة قلبته إلى دين حافل بالرموز والأسرار. والمسيح جاء بالسلام ولكن الكنيسة شنت الحروب الصليبية لمدة 171 عاماً، وأنشأت محاكم التفتيش لمدة خمسة قرون. والمسيح لم يقل يوما عن نفسه إنه الله، ولكن الكنيسة حولته إلى إله في مركب أقانيم، يعجز عن حلها البابا ومجلس الكرادلة.

وفي يوم سبت وقف المسيح يعظ المخابرات وموظفي الدولة المرتشين، فرأوا أنه خالف الشريعة مرتين: أنه يجلس إلى القذرين من الناس، وأنه يمارس العمل يوم السبت؟ وكان جوابه إذا سقط خروف لأحدكم في النهر يوم السبت، أيتركه يغرق أم ينقذه؟ أو ليس الإنسان أهم من خروف أو معزة؟ ثم إن هؤلاء القذرين في أعينكم مرضى، والمرضى يحتاجون لطبيب وليس الأصحاء.

وعندما وقعت في أيديهم الزانية رأوا أنها أفضل فخ لاصطياده، فإن رجمها سلموه للرومان بتهمة القتل. وإن امتنع عن تطبيق الشريعة كان هرطيقا. فالتفت إليهم المعلم وقال: من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر. فانقشع جمهور الفقهاء عن رأسه، واحتاروا في أجوبته. وكان يكلمهم بأمثال. وكان يتكلم كمن له سلطان وليس مثل الكتبة والفريسيين.

وبقدر ما صدَّق المسيح من جاء قبله، فقد كذَّب كل المعاصرين له من الكتبة والفريسيين والصدوقيين. ودعا إلى هدم العالم القديم فقال «مملكتي ليست من هذا العالم»، وهي جملة نطقها المسيح في وجه (بيلاطس) حينما سأله إن كان ملك اليهود؟ فلما كررها ثلاثا قال: أنت تقول ذلك. ثم عقب فقال: «مملكتي ليست من هذا العالم».

وحسب (شبنجلر)، فإنها كانت مواجهة بين عالمين. والمسيح نفض يده من عالم اليهود والرومان معاً. فأما اليهود فكانوا يرون خلاصهم بتدمير روما. وأما روما فدمرت اليهود على يد (تيتيوس) عام 70 م فمزقوا شر ممزق، وأصبحوا أحاديث في ملفات التاريخ والدياسبورا.

وعندما جاءه (براباس)، كان يظن أن المسيح يدعو إلى انتفاضة مسلحة على الطريقة الفلسطينية، ولكنه فوجئ بوجهة نظر المسيح، التي لا ترى فرقا كبيرا بين الرومان واليهود فالكل يؤمن بالقتل.

وبقدر بساطة تعاليم المسيح، بقدر تعقيد المفاهيم اللاهوتية. وعندما تبدأ الدعوات تزدان بالحماس والوضوح، وعندما تجف وتتخشب، يطوقها الظلام ويغشاها التعصب وتتحول إلى طقوس.

وكما يقول (ويلز) فإن المسيح كان نواة المسيحية، ولكن من أسس الكنيسة لم يكن الحواريون بل بولس، ولم يكن بولس حواريا، ولم يجتمع بالمسيح.

ومنذ العام 600 قبل الميلاد انبثقت أديان وأفكار مختلفة للخلاص الإنساني. والكنيسة تؤكد أنه صلب لغرض وفرض لم يعتق (جيوردانو برونو) ويعيده إلى التأهيل حتى اليوم. فهو رأى كوناً لا نهائياً، عامرا بالمجرات، فما معنى أن يأتي المسيح ليفدي نفسه في كوكب تافه بين مليارات الكواكب؟

والمسيح حينما دعا إلى مذهب ابن آدم الأول، أن لا يدافعوا عن أنفسهم في العمل السياسي، لقناعته بأن دوامة العنف تبدأ من حجة الدفاع عن النفس. فقال لا تقاوموا الشر. ومن ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر. وهو معنى لا نستطيع أن نستوعبه في العمل السياسي. بأن درء السيئة بالحسنة هو الذي يحول العدو إلى صديق حميم. ولكن هذا الأمر يحتاج إلى طاقة أخلاقية عالية. وبيننا وبين هذا الفهم سنة ضوئية. فنحن قد حفظنا دروس القتل، ومنذ مقتل عثمان وعلي وحتى الفلوجة يمارس القتل بدون توقف.

وفي كل الحرب الأهلية اللبنانية مات الناس كالذباب، ولكن موت الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا حرك المظاهرات في إسرائيل، لأنهم ماتوا صبرا مظلومين عزل أبرياء. ولو مات الشيخ ياسين بنفس الطريقة لسارت المظاهرات في كل العالم من أجل قضيته، كما فعلت مع نيلسون مانديلا. ولو مات الناس في الفلوجة في العراق بنفس الطريقة لحرك الضمير العالمي. ولكن القتل والقتل المضاد لا يحرك ضمير أحد. والقاتل والمقتول في النار.

وفي كل عام تخرج المواكب تحمل الصليب إلى جبل الجلجثة. وهي نفس الآلية التي يستخدمها بعض الطوائف الاسلامية سنويا في مناسبة مصرع الحسين في عاشوراء، فيضربون أنفسهم بالسلاسل والسواطير. وهذه الآلية النفسية ليست حكرا على المسيحيين أو الشيعة، بل هي متأصلة في جذر التفكير الإنساني فتجد التعاطف مع البشر السلاميين الذين يموتون من أجل قضاياهم صبرا، لأنه يلبي استعدادا نفسياً عند البشر بنصرة المظلوم الذي لم يدافع عن نفسه والتعاطف مع قضيته. «ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا».

والآن هل عرفنا لماذا كل هذا الإصرار على قتل هذا الرجل السلامي الوديع؟ لقد فهم الحكام والأغنياء والكهنة حقيقة دعوته وخطرها على امتيازاتهم أكثر من الحواريين؟

وكما يقول (ويلز) في كتاب (معالم تاريخ الإنسانية): كان أشبه بصياد أخلاقي رهيب يحفر عن الإنسانية ويخرجها من جحرها الدفيء الذي عاشت فيه دهرا، وتحت أنوار السراج الوهاج لمملكته هذه، لم يكن يحوز أية ممتلكات ولا امتيازات ولا استكبارا ولا أفضلية. وليس من حافز ولا جزاء إلا المحبة. أفمن العجيب إذن أن انبهر القوم منه وعميت أبصارهم فتصايحوا كلهم عليه؟ وحتى بطرس الحواري المقرب أنكره ثلاثا قبل أن يصيح الديك. أفمن العجيب إذن أن يدرك الكهنة والرومان أنه لم يكن بين هذا الرجل وبين أنفسهم خيار إلا أن يموت هو أو تلك الكهانة؟

وكان يمكن أن يصلب المسيح مثل الكثيرين ممن ماتوا أو صلبوا في التاريخ. ولكن ارتباط الصلب بعقيدة الفداء هي التي دخل عليها الإسلام فنفاها من خلال نفي الصلب «وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا».

فهنا امتزج التاريخ بالدين بالفلسفة. وما يفتأ هذا الجليلي كما يقول (ويلز) أكبر مما تسع له قلوبنا الصغيرة؟ وكان بإمكان أهل الفلوجة هم والأمريكيون أن لا يقيموا مذبحة الماسادا مرة أخرى، ويدخل الحزن إلى بيوت كثيرة في أمريكا والعراق. ولكن بعض العراقيين تربية صدام، وبعض الأمريكيين على مذهب بوش، وكل يؤمن بالقتل انه سيد الأحكام. وكل لم يسمع بالمسيح والأنبياء بعد؟