الإصلاح العربي.. والإنهاك الثقافي

TT

تحول حديث الإصلاح العربي والحوار السائد في كل ندوة ومؤتمر إلى دائرة ذهنية مغلقة, في طرح الأسئلة والأجوبة, فرضتها منظومة فكرية أخرى متفوقة, تختلف في أولوياتها السياسية ولا تدرك بنية الخلل في الثقافة العربية, ومثقف عربي يميل بطبيعة تكوينه إلى ملاحقة الموضات الفكرية المؤقتة، وتسويقها قبل التمكن من إشكالاتها السياسية والاجتماعية والدينية، وقدرتها على تحطيم البنى التقليدية المعطلة للحراك الحضاري. ومع مرور الوقت سيشعر الإنسان العربي بالملل والإنهاك، من هذه الأطروحات التي يستطيع السياسي ابتكار الحيل في تعطيل نموها على أرض الواقع, نتيجة فشل المثقف في ترسيخ مبادئه التي يتباكى عليها.

الغائب في أحاديث الإصلاح العربي، هو سؤال البدائل الفكرية، والأطر التي تلف بداخلها, فالقرار ليس هو كل شيء, لأنه سيظل بحاجة إلى خيارات ثقافية أخرى، يستبدل بها المعطوب من منظومة فكرنا ووعينا الحضاري. لقد تعرضت الكثير من الأيديولوجيات والأفكار في الساحة العربية، إلى إنهاك حقيقي في وعيها وخطابها, بعد عقود من التجارب المريرة لدى التيارات القومية والإسلامية وغيرها, فلم تعد قادرة على الصمود أمام تحديات المرحلة وتساؤلات المستقبل, وهي مهمة خاصة بالمثقف، الذي فشل في صناعة خلطة أو منظومة من الأفكار، التي يمكن غرسها في الوعي الشعبي، وتحويلها إلى خطاب عام تتبناه الحكومات، ويتسلل إلى الوسائل الإعلامية ومناهج التربية والتعليم.

نهاية الأيديولوجيا وهجاؤها ليس موضوعا جديدا ، فقد طرح منذ الستينات في الغرب. وينتج ما يطرحه الكثيرون عن انتقامات نفسية لدورها في تخريب نظامه ومنطقه الذهني في الوعي بالعالم من حوله, لكن شتم الأيديولوجيات لا يعني تلقائيا الدخول إلى فضاءات أكثر تنظيما، في توعية الجماهير بقوانين الصراع، والمفاهيم الثقافية والسياسية. فالواقع يقول إن لدينا تشكلات لتيارات وأيديولوجيات جديدة بدون تنظيم, وستظهر مسمياتها لاحقا, وحتى الإصلاح سيتحول إلى أيديولوجيا تقدس بذاتها، كما تحولت أحاديث التنمية والنهضة والتقدم الحضاري منذ عقود إلى خطابات مستهلكة، دون النجاح في خلق إغراء وجاذبية عملية من خلال اكتشاف علة التخلف في بنية الفرد العربي، كوصفة تنقذه من المتناقضات التي يستقبلها في كل لحظة، نتيجة القيم المزدوجة في مضمون الخطاب والأفكار.

قد يقال إن التجارب التاريخية للحكومات العربية أكدت عدم اهتمامها بالأيديولوجيا، وأنها لا تملك عقيدة محددة في التحديث والتنمية، ولهذا قد تتحول من اتجاه إلى آخر ضده، وفق احتياجاتها المرحلية للمحافظة على قوتها, وليس وفق ما تمليه مصالح المجتمعات العربية, وهذا القول له نصيب من الشواهد العديدة، لكن هذا لا يبرر خطأ غياب المنظومات الفكرية، التي يفترض أن تقوم النخب بصناعتها وترميمها في كل مرحلة, فالحكومات تستفيد من هذا الغياب في تهميش المنافسة على ذهنية الجماهير, وتتضرر من أي تغيير ثقافي تقوم به قوى قادمة، دون أن تحدد السقف الذي ستنتهي إليه الاتجاهات الجديدة، حتى لا تتعرض إلى حالات انقلابية في الموازين, وهو ما يفرضه عليها منطق السياسة والسلطة. وهو الذي يبرر عادة المخاوف الرسمية من الإصلاح أو التغيير، إلا بعد الشعور بأن المرحلة التالية مطمئنة.

ولا تقتصر الحيرة في تحديد المسارات السياسية والفكرية وتبني ثقافات مستقبلية على الوضع العربي, فالعالم منذ عقود, يواجه أسئلة حضارية معقدة لم يستطع معها الوصول إلى إجابات نهائية، تخفف حالة القلق من المستقبل, منذ زمن ترددت شعارات بعيدا عن اليسار واليمين والطريق الثالث، للخروج من الأفق المسدود, قبل الوصول لموجة البعديات، ما بعد الحداثة وغيرها. لكن الثقافة الغربية ومنظريها أكثر وعيا، ولديهم مخزون ضخم من التراكم الفلسفي والتجارب التي تكشف خبايا كل خيار, وتحدد بدقة أكبر كلفة كل شعار ومسار تتبناه سياسة الحكومات والأحزاب. أما الحالة العربية «آخر قلاع الرفض في العالم»، كما وصفتها مجلة النيوزويك قبل سنوات. فنحن لسنا أمام فشل عملي فقط، يلقى على مسؤولية القرار, وآلية التنفيذ، وكأن الأفكار جاهزة للتطبيق, وإنما أيضا أمام فشل تنظيري كبير في التعامل مع مخرجات الحداثة مبكرا, وبناء المفاهيم بعيدا عن الانتقائية المزاجية، والاختيارات المؤدلجة في استعمال قيم الحضارة وأدواتها, فالتوفيق العقلي، مع قيمته في بعض الحالات الاستثنائية، إلا أنه عملية ذهنية أكثر تعقيدا, وأكثر ضريبة عند التطبيق, بعكس ما هو سائد من توهم إمكانية سهولة فكرة الأخذ من الآخر ما ينفعنا ويوافق قيمنا، وترك ما هو مضر.

يرى عبد الله العروي: أن تجزئة التراث الغربي، واختيار جزء دون جزء حسب الظروف, هو سبب إخفاق السياسات الإصلاحية على الساحة العربية, ويرى ضرورة الشمول في نظرتنا إلى الغرب، مهما كان الغرض من استيحاء تجربته.

من المفارقات أن مجمل الدعوات الإصلاحية في هذا الوقت في الداخل والخارج, لدى أغلبية التيارات حتى المناهضة للغرب, تكتسب شعبيتها الجماهيرية من شتمه, وهي أفكار من منجزات الغرب بكل اتجاهاته, وحتى القوى التقليدية التي تفتخر بتراثها، وجدت نفسها أمام بدهيات كونية تحاصرها, وتخجل من طرح خطابها مباشرة، إلا بعد تغليفه بلغة الرأي العالمي, ولا تمتلك بدائل فكرية منجزة, فهي تدعو لشيء في بناء الدولة وخياراتها، غير واضح في التصور العام والمفصل, لهذا تجد نشاطها الأبرز والأكثر إبداعا، في إعاقة مسار الأفكار الجديدة تحت مسمى المقاومة، ومحاربة التغريب والإستعمار، دون أن تنجح في خوض بناء مفاهيم مستقلة عن تأثير الآخر.

نظريات جذابة كبيرة أخذت تتهاوى, حتى نظرية التنمية المستقلة مع العولمة أخذت تفقد بريقها, وجاء منطق السوق واللغة التجارية، واضطرت الدول للتنازل عن بعض مكانتها, لكن هذا المسار الذي أخذ يشكل لغة جديدة في أجندة العلاقات السياسية والاقتصادية، تبدو فيه الدول العربية الصغيرة أكثر قدرة على اللحاق به والاستفادة منه، لتغطية ضآلة حجمها في موازين القوى، من دول كبرى مثقلة بهيكلية داخلية مترهلة, وحسابات معقدة في اتخاذ القرار وتقليل كلفته, لأنها بحاجة الى بناء منهجي متكامل، لتخفيف حالة الممانعة وحدوث الردة التنموية, مما يجعل دور النخب الفكرية في الإصلاح, ليس عملية تسويقية لمفردات اللحظة العالمية فقط, وإنما يبدأ من صنع بدائل فكرية جادة, تستوعب حجم الإنهاك الذي تعرض له العقل العربي, ففهم بمنطق مغلوط تراثه وتراث الآخر.

* رئيس تحرير مجلة «المجلة»