لقد حصل

TT

الذين يقرأون هذه الزاوية يعرفون انني مررت، او تقلبت، في مواقف ومراحل كثيرة من الجوّال، او النقّال. فقد بدأت معارضا معترضا عندما وجدته في المراحل الاولى بين ايدي اللبنانيين، لا يفارقهم حتى في الحمامات العامة. ثم تراجعت شيئا فشيئا عندما اكتشفت انه ضرورة عائلية تسهل اتصال الاولاد بنا، وتسهل اطمئناننا عليهم، وبعد ذلك اصبح ضرورة مهنية، خصوصا بسبب السفر الكثير والترحال المستمر. لكنني في الاسابيع الاخيرة عدت الى مرحلة الانزعاج الاولى. فالشركات اصبحت ترسل اليّ الاعلانات من كل الانواع على رقم الجوّال، او النقّال. وكما وصلتني رسالة رنّ الهاتف رنة عاجلة، وإذ اقرأ الرسالة اكتشف انها من محل ملبوسات للاطفال يعرض عليّ اسعارا مخفضة. وتعددت الرنات والاعلانات والتخفيضات. وذات يوم رنّ في منتصف الليل فقمت مذعورا فاذا بها رسالة من ناد رياضي في بيروت. وفي ليلة اخرى قمت على رنة الذعر فاذا بناد آخر يعرض خدماته في نزع «الفاريس» من العروق ويسهل على الحوامل الاشهر الاخيرة من التعب. وارتفع معدل الرنين مع الايام. وكنت اقول ان النقّال يوفر عليّ اجر سكرتيرة فأصبحت في حاجة الى سكرتيرة خاصة للرد على اعلاناته.

وكنت ذات مرة الى مائدة رجل فاضل مع عدد كبير من المدعوين، فسمعت الرنة فتجاهلتها. فرن مرة اخرى، فتظاهرت ان جاري يرن، لا انا. فألح. واخيرا سحبت الهاتف من جيبي وقرأت الرسالة، فقال المضيف في عطف واضح: «خير. ماذا في الامر»، قلت: «ابدا، هناك عرض خاص على السماد الكيماوي، كل كيس تشتريه معه كيس مجاني».

وجئت الى اوروبا ومعي النقّال بداعي الضرورة والعمل، برغم التكاليف الباهظة. ولحظة هبوطي في مطار باريس رنّ الرنان (بالاذن من اغنية زياد الرحباني، عودك رنان)، فقلت في نفسي انها زوجتي تريد الاطمئنان الى الوصول. وقالت المتحدثة من بيروت: حضرتك فلان؟ قلت، هو. قالت: «لدينا عرض خاص على البلاط والاسمنت والرخام الايطالي». واعتذرت. ثم ركبت سيارة التاكسي ورنّ العود رناته. وحملت السماعة والسائق الفرنسي يتأفف من الضجيج وثقل العرب وعاداتهم. وقال المتحدث: فلان؟ قلت، افندم. قال: «مش راح تعرفني». قلت: «ذكرني باسمك». قال: «قلتلك مش رح تعرفني»، قلت: «والله العظيم لم اعرفك، مين حضرتك». قال: «شو قلتلك؟ مش راح تعرفني؟ جرّب ان تحزر؟».

أنا بين أمرين: إما ان اغلق الهاتف نهائيا وعندها ما الفائدة من وجوده اصلا، وإما ان أبقيه مفتوحا وأدفع ثمن الحزازير الخفيفة الظل واعلانات الصابون ومواسم التخفيضات في سوق البلاط الايطالي. وهناك حلّ ثالث، وهو ان ابقي كل شيء على حاله وارفع نسبة المهدئ الذي اتناوله ودواء الضغط ودواء مكافحة السكري.

وكلما شعرت ان الوضع تحسن قليلا بعد الابتعاد عن بيروت وحالة السير وقراءة لغة الوزراء الجدد، يرن الهاتف اول شيء في الصباح، بتوقيت باريس، وتقول لي المتحدثة من بيروت في صوت رخيم: حضرتك فلان؟ فأجيب بما هو الواقع غير القابل للنفي. وتقول الآنسة رخيم: «بدّي دقيقة واحدة من وقتك اذا سمحت. عاملين عرض بيجنن على صحون الكريستال. اذا قلتلك بيجنن، صدقني بيجنن». وأجيبها صاغرا: «لا حاجة للعرض، ولا لمساعدتك، لقد حصل، لقد جننت وانتهى الامر».