جنون البقر في أوروبا.. وجنون البشر في إسرائيل

TT

تشن حكومة إسرائيل على شعب فلسطين بكامله، حربا جنونية هستيرية لم يتقدم لها مثيل في تاريخ الاستعمار التقليدي البائد، الذي كان يمارس صنوف العنف لقمع حركات التحرير العالمية، لكنها لم تبلغ قط مبلغ قساوة الحرب التي تخوضها إسرائيل لحمل فلسطين على الرضا بتأييد الاحتلال والإمضاء باسم عملية السلام على صك الاستسلام.

بالمقارنة بين جرائم الحرب التي تقوم بها إسرائيل على أرض فلسطين، وبين ما كان يمارسه الاستعمار الأوروبي على بعض أجزاء العالم الثالث من قمع وضغوط، يبدو أن استعمار إسرائيل لا يقبل المقارنة مع سلفه. فلم يُعرف عن هذا الأخير أنه مارس حرباً شاملة على الشعب المحتلة أراضيه بكاملها وهدم فيها بيوت المدنيين بالمروحيات المقاتلة والدبابات المصفحة والصواريخ والقنابل المشحونة بالغازات السامة، ولا أنه حوّل الأرض المحتلة إلى أرض محروقة بالحديد والنار، ولا برمج ومنهج بعمد وإصرار الاغتيال السياسي لمعارضيه، ولا صوّب صواريخه الفتاكة إليهم وهم يسوقون سياراتهم في الشوارع، ولا اختطفهم من بيوتهم ليلا وساقهم إلى مصير مجهول، ولا حطم اقتصاد الشعب المحتلة أرضه وأشاع في القاصي والداني البطالة والجوع والبؤس، واستعمل تفقير الشعب وتدمير الأرض وسيلة لكسر صموده وإذلال رقبته.

كانت له معارك مع مقاومة الشعوب التي كانت تحمل سلاحا وليس حجارة لا تبلغ مقاصدها ولا تنفذ إلى مقاتلها. ولم يكن يقتلها قتلاً جماعياً بالرصاص السامّ القاتل الذي تسقط معه أرواح الطفل الرضيع، والشيخ الفاني، والمرأة الحامل كما تسقط الحشرات والبعوض والذباب تحت رشاش مبيد الحشرات بالعشرات والمآت. ولم تتحول الأراضي المحتلة في عهده إلى مقابر جماعية، ولا صارت أرض الاحتلال دار مأتم واحد كبير تُستعرَض في شوارعها قوافل الموتى ومواكب الجرحى والمعطوبين الذين يسقطون صرعى برصاصه طول النهار وزُلَفا من الليل.

إنها حرب جنون بشَرِ إسرائيل الذي تُهيب تعاليمه المقدسة بقتل غير اليهودي ولو كان بريئا ولو لم يرتكب جرما لأن في قتله تقربا إلى الله. وتجعل من ارتكاب جريمة قتل اليهودي لغير اليهودي وسيلة لنيل الأجر والثواب والغفران كما جاء في تلمودهم وكما أكده أخيرا مفتي إسرائيل الديني يوسف عُبادية عندما أفتى عَلَنيّاً بناء على نصوص التلمود «بأن بقية البشر غير إسرائيل خنازير يُتقرب إلى اللّه بقتلها وإبادتها».

يهتم الغرب هذه الأيام ويتخوف على صحة الأبدان من مرض جنون البقر (أو البقرة الحمقاء) ويتعبأ لحماية البشر من تناولها، ويسارع إلى إحراقها بالنار لإبادتها، لكنه يقف أمام إسرائيل (البقرة الحمقاء) متفرجا على جنونها لا يعمل لحماية الفلسطينيين من عدوانها وأخطارها، وكأنما يزكّي بصمته المريب مقولة الحاخام مفتي إسرائيل.

قبل أن تُصاب إسرائيل بجنون البشر الفتاك بضحاياه، أصيب العالم منذ أزيد من ستين سنة بجنون بشري ظهر أولا في ألمانيا عندما أسس الفوهرير هتلر الرايخ الثالث وأعلن عن مذهبه النازي العنصري الذي يجعل من الجنس الآري أفضل الأجناس، كما تجعل إسرائيل من شعبها شعب الله المختار المفضل على العالمين، وما عداه خنازير يجب استئصالها بالذبح والحديد والنار. وتساهل الغرب مع النازية ودخل في التفاوض معها وتنازل مؤقتا لمطامعها الجنونية ومطامحها الهستيرية في «اجتماع دينتزيغ»، لكن تبين له في النهاية أن لا مناص لإنقاذ البشرية من جنون النازية من فل الحديد بالحديد. وكان هتلر في مذهبيته وتصرفاته لا يؤمن إلا بهما فأجبره الحلفاء على الهزيمة والانتحار.

وقد صعّدت إسرائيل حربها النظامية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، فخططت لاغتيال كبار السياسيين الفلسطينيين وضباط الأمن في السلطة الفلسطينية الذين تلاحقهم مروحياتها المقاتلة وهم آمنون في مراكز عملهم أو يسوقون سياراتهم لضبط الأمن في مدن الأراضي المحتلة لترميهم بالصواريخ ذات الرصاص السام القاتل الذي يعتبر استعماله جريمة حرب بمقتضى القوانين الدولية التي تستخف بها إسرائيل لأنها منخرطة في قيم شريعة الغاب ولا تعيش عصرها عصر دولة الحق والقانون.

وتجلى هذا التصعيد في انتخاب ستين بالمائة من الناخبين الدموي المعروف بماضيه المخزي «أرييل شارون»، الذي لا برنامج له إلا إبادة شعب فلسطين وتحدي الشرعية الدولية التي لا يؤمن بها ولا يقول بها.

وازدادت هذه الحقيقة ترسيخا ووضوحا بمسارعة حزب العمل إلى الانخراط في منظومة شارون مقابل مقاعد محدودة يتبرع بها عليه حزب الليكود في حكومته. وبين عشية وضحاها تحول حزب العمل من حزب يدعي مناصرة السلام إلى حزب انتهازي ينخرط تلقائيا في منظومة اعتماد الحرب ووسائل القمع الطريق السالك إلى فرض سلام الاستسلام على الفلسطينيين. واتضحت حقيقة دموية شعب إسرائيل بتأليف حكومة الوحدة الوطنية التي تلتقي على قمع الانتفاضة الفلسطينية واختراع صيغة جديدة لما سمي بعملية السلام، وقوامها الإجحاف بالحق الفلسطيني والاقتصار على التبرع على شعب فلسطين بدويلة تقوم على%21 من تراب فلسطين، منزوعة السلاح مع ذلك، ومطوّقة بالمستعمرات الإسرائيلية التي سلّحتها حكومة إسرائيل وجعلت منها مليشيات وعصابات حرب.

وهكذا تبخرت أكذوبة رددتها إسرائيل مراراً وخدعت العالم بأن إسرائيل تحتضن تيارين: الحمائم والصقور، وبانخراط حزب العمل في حكومة الصقر الأكبر «شارون»، تبين أن لا حمائم ولا صقور في إسرائيل وأن ليس في القنافذ أملس. ألم يَبْنِ «إيهود باراك» معركته ضد شارون على أن التصويت على شارون هو اختيار للحرب واغتيال لعملية السلام؟. وها هو ينخرط في برنامجه الدموي، ويعلن حتى قبل دخوله الحكومة أن كل ما كان أبرمه مع ياسر عرفات لاغ وباطل.

إن «إيهود باراك» في سعي منه إلى أن ينال رضا «شارون» عليه هو نفسه الذي قدم التهاني للمليشيات الإسرائيلية التي تخطط وتنفذ عملية الاغتيالات السياسية الممنهَجة وهي تحمل اسمها الحقيقي جرائم الحرب، وقال عن عملها الإجرامي: «إنه رسالة موجهة من الجيش إلى كبار المسؤولين في السلطة لإشعارهم بأنهم لا حصانة لهم تمنعهم من الوقوع في قبضة إسرائيل»، وصدر عنه هذا التصريح وهو ما يزال مسؤولا على رأس وزارة الدفاع في الحكومة الإسرائيلية المستقيلة المكلفة بتصفية الأعمال الجارية التي يظهر أن من بينها أعمال القتل والاغتيال الممنهج لقادة السلطة الفلسطينية الذين كانوا يتفاوضون معه إلى الأمس القريب على عملية السلام (الكاذب المغشوش). وهو الذي كان طيلة الحملة الانتخابية يعلن أنه إن فشل فسيستقيل من الكنيست ومن رئاسة حزب العمل ويعتزل السياسة. وهو اليوم مقابل مقعد في حكومة الجنرال الإسرائيلي يضرب عرض الحائط بما وعد به. أما الجنرال الإسرائيلي المتقاعد «مايير دجان»، الذي سيسند إليه في حكومة شارون منصب المستشار الأمني الأعلى فقد كان أكثر وضوحا عندما قال: «إن حكومة أرييل شارون لن تتردد في ضرب القيادات الرسمية في السلطة الفلسطينية، وفي اقتحام المناطق الخاضعة لحكمها إذا ما دعت الحاجة». وهذا ما يجري فعلا ومن الآن على أرض السلطة الفلسطينية المسترجعة الواقعة تحت الحكم الذاتي. ثم أضاف الجنرال: «من المفروض أن نركز نشاطنا الأساس على السلطة الفلسطينية لكونها الإطار القيادي المنظم. وعلينا أن نعتقل من ينفذون الإرهاب ونحاكمهم ونسجنهم، وإذا تبين أن ياسر عرفات يقف شخصيا وراء هذه الأعمال، فإني أرى أنه يجب التعامل معه مثلما نتعامل مع أي مرتكب جناية ونعتقله».

ويبدو من خلال هذه التصرفات وعبر هذه التصريحات المجنونة من الآن وقبل أن يعلن شارون عن برنامج حكومته ما سيكون عليه وزراؤه بمن فيهم حزب العمل الذي ارتد عن خطته أو على الأقل اضطر إلى الجهر بحقيقته مقابل مقاعد وزارية، وما ستكون عليه حكومة شارون حينما تواجه الرئيس عرفات على مائدة المفاوضات إذا ما قُدِّر لها أن تنعقد لجولة أو جولتين، وبأية عقلية ستديرها اسرائيل وهي مصابة بالجنون البشري. ستكون هذه المفاوضات محكومة بالفشل لأنها ستكون حوار الصم، وعقيمة لا تنتج أي سلام لأن فاقد الشيء لا يعطيه. وستعود قضية السلام إلى نقطة الصفر، وكل شيء يرشحها لأن تظل تراوح مكانها وتدور في حلقة مفرغة.