مفكرة ذات يوم في الرياض

TT

كان يفترض ان التقي الامير متعب بن عبد الله في مكتبه الساعة الثانية عشرة ظهراً. وقد وصلت الى قيادة «الحرس الوطني» على عجل وانا الهث. ولم آت ماشياً بالطبع. لكن الدليل الذي معي كان يعرف طرقات الخرطوم اكثر مما يعرف طرقات الرياض. ويحن الى العاصمة المثلثة بلا انقطاع. ولم نكن نصل الى موعد الا متخاصمين، هو يؤكد لي انه يعرف تماماً ما اعني، وانا اعرف تماماً ان «هيثم» شارد الذهن، يفكر في الخرطوم، ويبحث عنها، وينسى كل يوم انه سألني في الامس، «سيادتك مشيت الخرطوم»؟

انتظرت خمس دقائق. وقبل ان انتهي من ارتشاف القهوة قال لي مدير مكتب الامير متعب، انه اتصل معتذراً عن التأخير. فهو في اجتماع مع الضباط والرقباء لبحث امور العناية الطبية في الحرس الوطني. وكان يتوقع انتهاء اللقاء تماماً عند الظهر، لكن يبدو ان المتحدثين كثر، وانا امام خيارين: اما ان انضم اليه هناك، اذا كنت املك الوقت، بحيث يتم اللقاء في نهاية الاجتماع، او ان يتحدد لي موعد آخر.

كان الامير متعب مجتمعاً بالضباط والرقباء في قاعة المحاضرات. ووجدت نفسي المدني الوحيد وسط عشرات العسكريين. واتخذت مقعداً في الصفوف الخلفية من دون ان ينتبه الى وجودي احد. شكا احدهم من حال المستوصف في المدينة المنوّرة. وتذمر آخر من قلة عدد الاطباء في احد المستشفيات. وقال ضابط او رقيب ان امه لا تلقى العناية الكافية في احد المستشفيات المدنية في الرياض. وقام من طالب بتحسين الاوضاع الطبية. ومن طالب بزيادة عدد الاطباء.

وكان الى جانب الامير متعب على المنصة مديرا الخدمات الطبية في الحرس. وكان يجيب هو على الاسئلة جميعها. ثم يدقق في شكوى السائل مع الطبيبين الاداريين قبل ان يعطي رده. وخلال النقاش وقف ضابط من الصفوف الامامية، وقال انه ذهب الى المستشفى لمرافقة زوجته، ووجد في صالة الانتظار رقيباً يجلس الى جانبه، واضاف انه «اضطر» الى الجلوس الى جانب رجل دونه رتبة ومرتبة. وان مثل هذا الاختلاط يفقده هيبته ولذا لا بد من الفصل بين الفريقين.

كانت جميع الشكاوى والاسئلة السابقة لا تعنيني. فمعرفتي في الشؤون الطبية لا تتعدى نصائح الاطباء. لكن هذا الضابط يطرح سؤاله بطريقة جريئة، ناسياً امرين: الاول ان القاعة مليئة برفاقه من الرقباء، والثاني ان نائب رئيس الحرس نفسه، يصغي الى الجميع ويرد عليهم تحت سقف واحد وباسلوب واحد وباهتمام واحد. اذن، ما هو الجواب؟ انه التالي: «اذا كنا نتساوى في المرض وفي العلاج فالاحرى بنا ان نتساوى في الصحة. ان رتبتك تمنحك حق الامرة وميزة المرتبة خلال اداء الواجب. لكن في الاماكن «الانسانية» يبقى الاحترام وحده لازماً وملزماً».

بعد نهاية اللقاء «العسكري»، اقترح الامير متعب ان نوفر على انفسنا العودة الى مكتبه، وجلسنا في رواق القاعة. وهنا دار الحديث عن «الجنادرية» التي كانت على وشك الانتهاء. لكنني عدت الى الضابط الذي اعترض على مجالسة الرقيب. وقال الامير متعب «اثقلنا عليك بامورنا وشجوننا الخاصة». وقلت له: «تماماً العكس. فهذه اول مرة ادخل الى لقاء عسكري. واول مرة ارى فيها الرقباء والعقداء في قاعة واحدة. والحقيقة ان معظم الاسئلة والاجوبة لم اكن اعرف عنها شيئاً. لكن استوقفني الضابط الذي سأل عن الرتب. وقلت في نفسي انك امام سؤال محرج وموقف صعب». وقال الامير متعب: «هناك في هذه الحال طريقتان: الجندية وقوانينها، والسعودية واعراف التعايش فيها. صحيح ان للرتبة حقها الاول، ولكن السعودية مجالس مفتوحة للجميع. وليس هناك وسيط بين الحكم والناس ولا بيروقراطية. وعندما يدرك الموظف ان في امكان صاحب الشكوى ان يعرض مطلبه مباشرة على الملك فهد او الامير عبد الله او اي مسؤول آخر، فانه يخاف التقصير. هذا هو الهدف الاساسي من العلاقة المباشرة مع الناس. فما هو نفع الديمقراطية اذا كانت ستضيع في المكاتب والمعاملات. ان مهمة الموظف ان ينفذ مطالب الناس لا ان يكون وسيطاً فيها».

يتابع جيل الابناء ما تعلموه. وعندما ذهبت لمقابلة الامير سلطان بن سلمان في «الهيئة العليا لتطوير الرياض» حرصت ان اخرج الى الموعد قبل ساعة خوفاً من ان يضيع بنا «هيثم» في جادات «الحي الدبلوماسي» ومبانيه الرائعة الطراز. وكنت على حق. فقد وصلنا الى المكان قبل نصف ساعة، ولكن من الجانب الخطأ. وقد سألني هيثم في الطريق، وهو يصغي الى الموسيقى السودانية من هاتفه النقال: «سيادتك مشيت الخرطوم؟».

كنت قد التقيت الامير سلطان بن سلمان المرة الماضية في منزله الاثري القديم الذي اعاد ترميمه واحاطه بالشجر والزرع. لكن اللقاء هذه المرة في مكتب حديث، بسيط، والهاجس واحد: الثروة الاثرية في السعودية: «هناك اربعة الاف موقع اثري في المملكة لم نستكشف منها حتى الآن سوى مئة. هذه ثروة لا تهمل وكنوز يجب الحفاظ عليها. ومنها يتعلم السعوديون ويعرف العرب والعالم ان الجزيرة عراقة اولاً. وقبل كل شيء».

وقلت للرجل الذي شاهد الارض من السفينة الفضائية: «ولكن اليس من الصعب اقامة صناعة سياحية في السعودية؟». قال الامير الشاب: «يتوقف ذلك عن اي سياحة نتحدث. نحن هدفنا قبل اي شيء ان نجعل السعودي نفسه يعرف بلاده ويتنقل فيها بدل السفر الى الخارج. اما الاجنبي القادم فسوف نقدم له صورة حقيقية عن الغرب وعن حقيقة الاسلام وعن طباع شعبنا وطبيعته. من قال ان السياحة مطعم فقط؟ انها علم ومعرفة وتراث وتعرف الى اهل البلاد. لكن كما قلت في البداية، الهدف الاول، هو السائح الداخلي. هو اقامة المواقع التي تجتذب ابن الشمال الى الجنوب وابن الغرب الى الشرق والعكس طبعاً صحيح ايضاً».

وقال الامير سلطان بن سلمان: «العام الماضي لم اترك السعودية الا لاسبوعين نصفهما عمل. فماذا نقص عليّ؟ ان السعودي يعتبر ان حلول الصيف يعني السفر في اي اتجاه، الا الاتجاه الداخلي. والخليجيون لا يأتون الى المملكة الا لاعمالهم، وكذلك العرب، فما الذي يمنع ان يأتوا الينا في سياحة تَعَرّف وعلم وراحة؟ وماذا يمنع الباحثين والمهتمين والمعنيين من التعرف الى الجزيرة العربية عن قرب؟».

ثمة جيل يتعمق في الماضي ليساهم في بناء المستقبل. الجيل الذي يسعى لان يمزج ما عاد به من علم واطلاع، بما ورثه من معرفة واصول واعراف. وخصوصاً من مسؤوليات. ويصرف سلطان بن سلمان الجزء الاكبر من وقته في رئاسة جمعية المعوقين او الجمعيات الانسانية الاخرى التي اخذت على نفسها مواجهة وقائع الحياة وطبيعة الاشياء. وبين حديث المستوصفات والمستشفيات في قاعة المحاضرات بالحرس الوطني وحديث الجمعيات المنهمكة في مواجهة صعوبات الحياة المدنية، في الهيئة العليا لتطوير الرياض، تظل القاعدة واحدة مهما تغير الاسلوب: لا وسيط بين المسؤول والناس. وكلما علت المرتبة زادت المسؤولية. ويبدو ان القاعدة الاخرى هي طلب المسؤولية وليس تجنبها. في يوم واحد في الرياض، وموعدين، سمعت حديثاً واحداً هو حديث العلاج والعناية والطبابة. وعندما ودعت الامير سلطان بن سلمان وعدت الى السيارة، كان هيثم لا يزال يسمع الاغاني الشجية. وقد سألني هذه المرة: «نروح سيادتك اللوكندة». فاجبت: «طوالي». لقد كانت «اللوكندة» هي الشيء الوحيد الذي يعرف مكانه في الرياض، وهو يذوب حنيناً الى ام درمان.