ارتكبت خطأ حين رحبت بخطوة توقيف وزير النفط السابق شاهي برصوميان

TT

يرى رئيس الحكومة اللبنانية السابق الدكتور سليم الحص في توثيقه الجديد لآخر تجاربه في الحكم بين العامين 1998 و2000، والذي صدره بعنوان «للحقيقة والتاريخ»، ان المال جعل الساحة الانتخابية اللبنانية اشبه بسوق نخاسة تباع فيها الضمائر وتشترى. ومن خلال هذه الزاوية كان الحص يعتقد ان المعركة الانتخابية الاخيرة الاشرس والاوسخ في تاريخ الانتخابات اللبنانية. ويؤكد ان حكومته قضت على بدعة «ترويكا الحكم» الى الابد وانها اعطت الدليل على ان العملة اللبنانية لا ترتبط بشخص معين، وان اعظم انجاز حققه لبنان في عهد حكومته هو تحرير الجنوب والبقاع الغربي.

كما تطرق الحص الى العلاقة بينه وبين رئيس الجمهورية ويقول «لو كان في لبنان رجل واحد لاطائفي فهو اميل لحود»، كما تحدث الحص عن العلاقة بينه وبين سورية، وقال: لقد شرحت للرئىس السوري الراحل حافظ الاسد اسباب عدم قبولي التحالف مع الحريري فلقيت منه تفهما وقبولا. كما تحدث الحص عن الاجواء السياسية التي صاحبت تكليفه من طرف الرئيس لحود بتشكيل الحكومة، وقال ان الحريري نصح لحود بعدم تكليفي بذلك لانني حسب رأي الحريري «عنيد ورأسي يابس». وفي هذه الحلقة يعترف الحص بارتكابه خطأ عندما رحب بخطوة توقيف وزير النفط شاهي برصوميان. وفي ما يلي الحلقة السابعة.

عقد مجلس الوزراء جلسة يوم الاثنين في 21/12/1998 واتخذ جملة قرارات مهمة، منها قرار بالسماح بالتظاهر، وذلك تأكيداً لنهج الحكومة في المحافظة على الحريات، ولا سيما منها حرية التعبير، وكان التظاهر محظراً منذ عام .1993 ومنها قرار باسترداد المراسيم التي تتعلّق بتوزيع القنوات والترددات التلفزيونية والاذاعية ووضع دراسة متكاملة للملف الاعلامي، وذلك تمهيداً لاعطاء بعض المحطات التي كانت تعمل في الماضي وحُجبت عنها التراخيص من دون وجه حق، علماً بأن تلك المراسيم وزعت الترددات والقنوات على المحطات القائمة فأقفلت الفضاء أمام تلك التي لم يرخص لها. ومن القرارات المتخذة قرار بتعيين رئيس المجلس التأديبي، ورئيس هيئة التفتيش المركزي، ورئيس مجلس الخدمة المدنية، وكذلك قرار بتعيين قائد جديد للجيش، ومدير عام قوى الأمن الداخلي، ومدير عام أمن الدولة، ومدير عام الأمن العام. ومن القرارات المتخذة قرار بانشاء مقر لمجلس الوزراء في المبنى الاداري الذي كانت تشغله الجامعة اللبنانية، وذلك تطبيقاً لنص دستوري.

بعد الغارات الجوية الوهمية التي شنتها اسرائيل قبل أسبوعين فأطلقت ما سمي قصفاً صوتياً لبيروت وغيرها من المناطق اللبنانية، نفّذت اسرائيل في 22/12/1998 غارة حقيقية فوق البقاع قصفت خلالها مزرعة «جنتا» التي تقع قرب عمود ارسال «لاذاعة المستضعفين»، فقتلت الأم وأولادها الستة وأصيب رب العائلة وطفلة بجروح. وقد جاءت هذه المجزرة بعد اقرار الكنيست الاسرائيلي اقتراح قانون باجراء انتخابات مبكّرة.

أدليت بتصريح استنكرت فيه الجريمة النكراء قائلاً: «ان هذه الغارات الوحشية تأتي مصداقاً لما يعانيه لبنان من جراء الازدواجية التي تطبع السياسة الدولية»، غامزاً من قناة الولايات المتحدة من دون تسميتها بالاشارة الى «الذين ينادون بالحرية والعدالة وحقوق الانسان ويُزوّدون اسرائيل بآخر ما توصّلت اليه صناعة الحرب المتطورة».. وقد تبلّغنا ليلاً من السفير الأميركي أن الادارة الأميركية بادرت الى الاتصال باسرائيل في شأن الغارة على «جنتا» وأن الدولة العبرية بررت سقوط مدنيين بحصول خطأ.

جاء الرد على الغارة من حزب الله اذ أطلق صباح 27/12/1998 وابلاً من صواريخ الكاتيوشا على مستوطنات في شمال اسرائيل ولا سيما منها «كريات شمونة». وقد سقط بنتيجة هذه العملية 16 جريحاً اسرائيلياً. وقد أثارت هذه التطورات العسكرية المتسارعة قلقاً دولياً من احتمال حصول تدهور واسع، عبّرتُ عنه بوصفي الوضع في الجنوب بأنه «خطير جداً ومفتوح على كل الاحتمالات وقد يستمر كذلك الى وقت بعيد».

تلقيت من وزير خارجية فرنسا أوبير فدرين اتصالاً شدد فيه على ضرورة دعوة لجنة تفاهم ابريل (نيسان) الى اجتماع عاجل في محاولة لضبط الوضع. فتمنيت عليه بذل ما يستطيع من مساع للجم اسرائيل عن تجديد عدوانها.

قمت في 26/12/1998 بزيارة بكركي لتهنئة غبطة البطريرك الماروني بعيد الميلاد المجيد، ورداً على الهواجس التي أبداها غبطته حول الحريات والحالة المعيشية صرّحت بالقول ان ثوابت البطريرك هي ثوابتنا.

في اليوم الأخير من عام 1998، ورداً على سؤال صحافي عن العنوان الأبرز للحكومة في السنة الجديدة، صَرّحتُ بالقول: «كما أوضحنا في بياننا الوزاري وفي الرد الذي أدليت به على مداخلات النواب في نهاية المناقشة للبيان الوزاري، فان هناك عنوانين كبيرين لتوجهات الحكومة هما اصلاح الادارة ومعالجة عجز الموازنة». وأردفت القول: «ان مهمتنا صعبة وطويلة ولدينا رؤية وعزيمة على حملها بالتعاون مع كل المخلصين». وقلت: «ليس وارداً اطلاقاً أن نسلك طريق الانتقام أو نبش الماضي، ولكن هذا لا يعني اننا أخذنا بمبدأ عفا الله عما مضى، فاذا وقع في يدنا أمر ينطوي على خلل أو شذوذ أو مخالفة قانونية فسنحقق فيه حتى النهاية ونحمّل المسؤول مسؤوليته».

عقد مجلس الوزراء جلسته الأسبوعية في 7/1/1999 فبحث في مسلسل الاعتداءات شبه اليومية التي تشنها اسرائيل ضد لبنان، وكان منها غارة قبل أيام على البقاع واعتداء على بلدة أرنون دمّرت اسرائيل بنتيجته 14 منزلاً وتشديد اسرائيل الحصار المفروض على شبعا والقيام بعمليات دهم لها. وبعد أيام أبعدت اسرائيل 25 مواطناً من بلدة شبعا جاؤوا الى بيروت، وقصفت اسرائيل بالمدفعية منشآت «معمل شارل حلو» للكهرباء قرب جسر بسري، وهي المرة الأولى التي تستهدف فيها البنى التحتية منذ فترة طويلة.

أصدر مجلس الوزراء أول دفعة من القرارات الادارية أعفي بموجبها 13 مديراً عاماً من مهامهم ووضعوا في تصرف رئاسة الوزراء، وأُنهيت خدمات 6 رؤساء وأعضاء لمجالس ادارة.

وقد اتخذت هذه القرارات بناء على تقرير عرض وزير الدولة لشؤون الاصلاح الاداري الدكتور حسن شلق لتفاصيله أمام مجلس الوزراء، وقد وضعت هذه التقارير بعد الاطلاع على المعلومات المقدمة من الهيئات الرقابية والمتعلّقة بملفات عدد من الموظفين. وقد كان الدافع الى هذه القرارات الرغبة في تفعيل الادارة والبدء بعملية مناقلات بين المسؤولين في الادارة. وقد صرّح الدكتور حسن شلق لصحيفة «النهار» بعد الجلسة أن الذين أنهيت مهامهم يشكلون الدفعة الأولى، وثمة دفعات أخرى ممكنة لاحقاً.

تضمن تقرير وزير الدولة لشؤون الاصلاح الاداري لمجلس الوزراء سرداً للمخالفات أو التجاوزات أو الارتكابات التي اقترفها كل من الذين وُضعوا في التصرّف أو أُنهيت خدماتهم بناءً على المعلومات الواردة من الهيئات الرقابية. وفي بعض الحالات حُمّل رؤساء مجالس تبعة المخالفات أو التجاوزات التي اقترنت بها أعمال تلك المجالس.

وقد تبين في ما بعد أن المعلومات التي بنيت عليها القرارات في عدد معيّن من الحالات لم تكن دقيقة أو مكتملة. ولكن هؤلاء كان أمامهم خيار الاعتراض على قرارات مجلس الوزراء أمام مجلس شورى الدولة في حال شعروا بالغبن أو الاجحاف.

انعقد مجلس الوزراء استثناءً صباح الخميس في 7/1/1999 بدل الأربعاء نظراً لاضطراري الى التوجّه الى دمشق نهار الأربعاء للقاء الرئيس حافظ الأسد. وقد تناولت في حديثي معه تطورات الوضع على الصعيد الجنوبي وعلى الصعيد السياسي، فشرحت ظروف اعتذار الرئيس الحريري عن عدم تأليف الحكومة وبالتالي تكليفي بتأليفها. وعرضت لبرنامج عمل الحكومة في مختلف المجالات، وقد تحدّثت في العلاقات اللبنانية ـ السورية، وتطرقنا الى تطورات الموقف على مستوى مسيرة التسوية السلمية. لقيت من الرئيس الأسد كل ودّ وتفهّم.

وعند غروب ذلك اليوم شاركت في افطار رمضاني نظمته مؤسسات الرعاية الاجتماعية ـ دار الأيتام الاسلامية، وكان الرئيس الحريري بين الحضور. فألقيت كلمة في المناسبة تطرّقت في ختامها الى الحملة المتصاعدة التي تتعرّض لها رئاسة الوزراء. فقلت: «لئن كنا نتعرّض لحملة منظمة تستهدف الاساءة الى مقام رئاسة الوزراء وتصوير مواقفها على غير حقيقتها، فلقد كنا أوفياء للمبادئ والتطلعات والرؤى التي كنا دوماً نرددها ونؤمن بها وما زلنا» وقلت: «فليكن معلوماً أن الضرب على وتر العصبيات الفئوية لا يجوز استسهاله. انه سيف ذو 18 حداً باعتبار أن في لبنان 18 طائفة معترفاً بها».

وكان نائب رئيس الوزراء، وزير الداخلية، قد أعلن توصيات اللجنة الوزارية لدرس أوضاع المؤسسات والمجالس، فانتقدته أمام الصحافة من دون أن أسمّيه مشيراً الى أنه «كان يفترض ألاّ تعلن التوصيات لأن القرار في النهاية يعود الى مجلس الوزراء».

تعرّضنا للانتقاد من جانب الرئيس الحريري ومن جانب النائب وليد جنبلاط ازاء الاجراءات التي اتخذناها. فقال الرئيس الحريري: «ليس من الطبيعي أن يتحول الاصلاح المرجو مجالاً للاساءة الى أشخاص الناس وكراماتهم». وحمل الحزب التقدمي الاشتراكي على ما سمّاه سياسة أمر اليوم التي «نفّذها المجلس العلني للادارة الحكومية». ولفت الى «أن سياسة الانتقاء والانتقام لا تعطي مثالاً بل تعطي مثلاً على الآتي في مقبل الأيام».

عقد مجلس الوزراء في 13/1/1999 جلسته الأسبوعية واتخذ قرارات أعفت أربعة من المديرين العامين من مهامهم ووضعتهم في تصرف رئاسة مجلس الوزراء، وذلك بناء على تقرير عرض تفاصيله أمام مجلس الوزراء وزير الدولة لشؤون الاصلاح الاداري الدكتور حسن شلق بيّن فيه المآخذ المسجّلة على الذين شملتهم القرارات. كما أصدر مجلس الوزراء قرارات عيّن بموجبها 12 شخصاً في وظائف الفئة الأولى، منهم 9 مديرين عامين و3 رؤساء مجالس. ووافق على تشكيلات دبلوماسية واسعة شملت 67 سفيراً، غير أن أسماءهم لم تذع وذلك تمشياً مع الأصول الدبلوماسية الدولية التي تستوجب الحصول على موافقة البلدان المعنية قبل اعلانها رسمياً. وسط الحملة السياسية والاعلامية التي شنتها المعارضة على الحكومة متهمة اياها بالعمل على نسف دورة كأس آسيا لكرة القدم التي كان قد تقرر عقدها في لبنان في اكتوبر (تشرين الاول) 2000، قرر مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 22/1/1999 تأكيد قرار استضافة الدورة في موعدها المقرر وتكليف وزير الشباب والرياضة محمد يوسف بيضون اتخاذ كل الخطوات اللازمة لتنفيذ المشروع بما في ذلك انجاز مشروع بناء ملعبي صيدا وطرابلس وتأمين التمويل اللازم لهما.

وبرغم كل التشويش الذي تعرّض له المشروع فقد أُنجز انشاء الملعبين في الوقت المناسب وافتتحت دورة آسيا رسمياً في 13 أكتوبر .2000 أدليت في 24/1/1999 بحديث شامل على محطة تلفزيون « أم. تي. في». قلت فيه في ما قلت، رداً على تصاعد الحملة ضدي والتي ترمي الى تصويري وكأنني خذلت طائفة المسلمين السنّة، والى الترويج من ثم لزعم يفيد أن السنّة في حال من الاحباط، قلت: «لا شيء اسمه احباط سنّي. فالطائفة السنّية رائدة ولا تصاب بالاحباط، وهي حملت مشعل القومية والوطنية وهي شريك أساسي في الحكم، وهذا الكلام قد يكون الهدف منه افتعال الاحباط».

في اليوم عينه، وفي ما بدا تفجيراً لفضيحة مالية جديدة، أعلن وزير الداخلية والبلديات ميشال المر في مؤتمر «تطوير العمل البلدي واللامركزية» الذي عقد في مبنى «الأونيسكو» جامعاً نحو 700 رئيس بلدية وحشداً نيابياً ووزارياً واعلامياً وسياسياً، أنه «يفتش منذ شهر ونصف الشهر عن أبواب صرف 1200 مليار ليرة دخلت الصندوق المستقل للبلديات من دون أن يلقى جواباً من أحد». وأشار الى أن 60 في المائة من المبلغ المشار اليه «بات مصيره معروفاً ومعظمه صرف في مدينة بيروت. وفي هذا ما فيه من اتهام مباشر للحكومات السابقة التي كان هو عضواً فيها، علماً بأن المعنيين مباشرة باتهامه هما الوزيران السابقان للمال والبلديات.

وفي تصريح لصحيفة «النهار» رد وزير الدولة السابق للشؤون المالية فؤاد السنيورة على ما أعلنه ميشال المر فقال: «أولاً،... أُجريَ عن أعوام 1993 الى 1996 قطع حساب وأقرّه مجلس النواب، وكذلك أُجريَ قطع حساب عن عام 1997 وأرسل الى مجلس الوزراء وأعتقد أنه لم يُقر بعد. ثانياً، ان الأموال المتعلّقة بالبلديات وافق على صرفها مجلس الوزراء، وكان معالي الوزير ميشال المر موجوداً، وبمعرفته وباصراره وبموافقته وبمبادرة منه وافق على أسلوب صرف الأموال وذلك على الشكل الآتي: 75 في المائة من أموال البلديات تُوضع في حساب الصندوق البلدي المستقل وتُصرف على المشاريع المشتركة، وليس فقط على بلدية بيروت بل على كل البلديات وهي شملت تحديداً 242 قرية في جبل لبنان وخصوصاً لازالة النفايات، وبالتالي فان الادعاء بحصرها في بلدية بيروت ادعاء كاذب. أما الـ25 في المائة المتبقّية من المبالغ من حصة البلديات فجرى تحويلها بالكامل الى حساب في مصرف لبنان وتقدّر بنحو 80 مليار ليرة، وعلى الوزير المعني، أن يحوّل لكل بلدية حصّتها».

عقد مجلس الوزراء أول جلسة له في مقرّه الخاص قرب المتحف، بعد أن كانت الجلسات الماضية قد عقدت في قصر بعبدا. وقد أطلع مجلس الوزراء من وزير الدولة للشؤون البلدية والقروية ميشال المر على المعطيات والوثائق والمستندات التي عرضها في جلسة اللجان النيابية المشتركة قبل يوم في موضوع الأموال البلدية، وأبلغ الوزير الى المجلس أنه سيحيل الملف كاملاً على النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة لتقف على حيثياته وتتخذ التدابير اللازمة في صدده.

ولم يتخذ مجلس الوزراء قرارات ادارية جديدة فأثار ذلك شبهات في الأوساط السياسية بوجود خلاف بين رئيس الجمهورية وبيني حول قرارات الاعفاء من المهام والتعيينات، فاضطررت الى نفي وجود مثل هذه الخلافات. وكانت اللجان النيابية المشتركة قد عقدت جلسة برئاسة الرئيس نبيه بري، حول قضية الأموال البلدية، حضرها الوزيران السابقان للشؤون البلدية والقرويّة هاغوب دمرجيان وباسم السبع. فعرض نائب رئيس الوزراء وزير الدولة للشؤون البلدية والقروية ما لديه من وثائق ومعلومات وعرض الوزيران السابقان ما لديهما في المقابل، ولم تفضِ الجلسة الى نتائج حاسمة. وقد طلب الرئيس بري من وزارة المال ايداعه مقدار رصيد حساب البلديات.

اشتدّ التجاذب السياسي حول قضية أموال البلديات في الأسبوع الأخير من يناير (كانون الثاني) 1999، مما يوحي بأن مضاعفاتها لم تنتهِ باعتراف وزير الداخلية والبلديات ميشال المر قبل يومين بالعثور على 500 مليار ليرة من رصيدها. وقد أعلنتُ أن الحكومة أحالت قضية الأموال البلدية على النيابة العامة في ديوان المحاسبة لجلاء ملابساتها، ونحن في انتظار نتائج التحقيقات التي ستجري على هذا الصعيد وسنبني على الشيء مقتضاه. وقلت: «لقد زارني قبل يومين الوزير السابق للشؤون البلدية والقروية السيد هاغوب دمرجيان وشرح لي وجهة نظره حول هذه المسألة. وأنا أعرف الأستاذ دمرجيان منذ زمن طويل، فقد كان من تلاميذي في الجامعة، وقد واكبته خلال توليه الوزارة عبر ما يناهز ست سنوات، فعرفت فيه دوماً النزاهة والاستقامة والاخلاص في العمل. في أي حال أرجو التزام الموضوعية في التعامل مع الملف البلدي حرصاً على المصلحة العامة».

ونقلت صحيفة «النهار» ذلك اليوم كلاماً للرئيس لحود قال فيه ان الحملات التي تشن ضد الاجراءات الادارية تستهدف في ما تستهدف «ايجاد شرخ داخل السلطة التنفيذية من خلال التركيز على الرئيس الحص والتشكيك في اضطلاعه بمسؤولياته الدستورية». وأكد رئيس الجمهورية: «أن هذه الحملات لن تبلغ غاياتها في النيل من الرئيس الحص كونه يتمتع بصدقية كبيرة أمام الرأي العام فضلاً عن ثقة رئيس الجمهورية في العمل معه».

في اليوم التالي تقدّم وزير المال الدكتور جورج قرم بتقرير الى لجنة المال والموازنة في مجلس النواب قال فيه إن رصيد الأموال البلدية محفوظ دفترياً ولكن السيولة غير متوافرة لاستخدامه. وقد حسم ذلك الجدل حول هذه القضية. وكان لي في ذلك اليوم تصريح حول الحملات الاعلامية والسياسية المتصاعدة ضد رئاسة مجلس الوزراء خصوصاً في وسائل الاعلام التابعة للرئىس الحريري، قلت فيه: «معاذ الله أن ندّعي العصمة، واذا كانت في أدائنا بعض الثغرات فمن الذي كان أداؤه في الحكم خلواً منها ؟ نحن نفهم أن يكون هناك معارضة تنتقد الحكومة في شكل بنّاء. ففي ذلك خدمة للديمقراطية ولسلامة الحياة السياسية. وقد مارسنا هذه المعارضة يوم كان غيرنا في موقع المسؤولية الاجرائية. ولكننا نستغرب الحملات المحمومة التي تُشن يومياً على الحكومة، وعلى رئاسة الوزراء بالذات، وبعضها لا يخلو من تزوير للحقائق وتشويه لها، وهذا ما ينفي أي تفسير لها سوى أنها حملات مغرضة حتى لا نقول موتورة، ونستغرب كذلك الامكانات المادية التي توظف في هذه الحملات، مما يؤكد قولنا إن المال دخل على اللعبة السياسية فعطل الكثير من أدواتها، علماً أن أهم هذه الأدوات وسائل الاعلام والجمعيات الأهلية. ان الطريقة التي يُسخّر الاعلام فيها لشن حملات مضللة، خدمة لأغراض سياسية مكشوفة، من شأنها أن تفسّر لنا وللرأي العام سرّ اصرار حكومة سابقة على سلوك نهج المحاصصة في توزيع تراخيص وسائل الاعلام المرئي والمسموع. لقد زرعوا في الاستئثار بوسائل الاعلام وهم اليوم يحصدون. ان تقاسم وسائل الاعلام هو في حجم الخطيئة التي غفرها لهم هذا النظام الذي غابت عنه المحاسبة الحقيقية والمساءلة. ونحن نرى أن عملية التقاسم والمحاصصة التي طبعت قرارات حكومات سابقة تقع تحت طائلة قانون الاثراء غير المشروع الذي يجب تطبيقه في هذه الحال».

عقد مجلس الوزراء جلسته الأسبوعية في 3/2/1999 فاستهلها رئيس الجمهورية بكلمة قال فيها ان بعض الحقائق تضيع لدى المواطنين بسبب التجاذبات السياسية القائمة، وأيد ما سبق أن صرحتُ به بأن الحكومة والعهد مستهدفان بحملة سياسية واعلامية معروفة الخلفيات والأهداف. وذكّر بأنه لم يمضِ على وجود هذه الحكومة في السلطة أكثر من شهرين وأن المتضررين يحاولون تحميلها أوزار التراكمات الماضية والايحاء بأن المشكلة هي عند الحكومة والعهد، في حين أن المشكلة الحقيقية تكمن في التركة الثقيلة الاقتصادية والادارية الموروثة.

وقبل ظهر 10/2/1999 شاركت في جلسة نيابية عامة مخصصة للتشريع، الا أن عدداً من النواب تناولوا الكلام في مستهل الجلسة وهاجموا الحكومة على سياستها في مختلف المجالات. وكان لي في نهاية الكلام رد على النواب المنتقدين في 13/2/1999 صدرت مواقف ناقدة للحكومة بشدة، أبرزها موقف من الرئيس عمر كرامي قال فيه: «اذا استمرت الأمور على هذا المنوال ولم تستطع الحكومة الاقلاع كما ينبغي، فحرام أن تصرف من رصيد هذا الرئيس (رئيس الجمهورية) الذي يعلق عليه اللبنانيون آمالهم. فلتستبدل بحكومة سياسية ولكن في عدادها خبراء». وموقف من نائب رئيس مجلس النواب ايلي الفرزلي ناشد فيه الجميع «رفع الأيدي عن مقام رئاسة الجمهورية، معرباً عن قناعته بفصل الرئاسة الأولى عن الحكومة ومعرباً أيضاً عن ثقته برئيس الحكومة وقال ان «الرئيس الحص هو دائماً الاحتياط الاستراتيجي والأخير عندما يُراد وضع الأمور في نصابها وخصوصاً على المستوى المالي، وأشعر أن هذه الحكومة بلا لسان، اذا صح التعبير، وتحتاج الى من يسوّق ايجابياتها». وموقف من النائب نسيب لحود قال فيه، في اشارة الى تعيينات تبين في ما بعد أن وراء اقتراحها كان نائب رئيس الوزراء ميشال المر وقد تمّ امرارها من طريق رئيس الجمهورية: «أعتقد أنه دخل في الاصلاح الاداري بعض المحاصصة رغم أن الرئيس الحص ومعظم الوزراء عفّوا عن المحاصصة».. وقد أدلى الأستاذ لحود بتصريحه بعد زيارة قام بها لي في السرايا الحكومية في 14/2/.1999 وصباح 15/2/1999 طلعت صحيفة «النهار» بعنوان يقول: «الحص ينفجر ويعترف: أخطأنا مرتين. وسنعيد النظر ونتحمل المسؤولية». وكان ذلك في اشارة الى بيان أصدرته وينطوي على شيءٍ من النقد الذاتي. وهذا نصّ البيان:

«اننا ندرك أن الحكومة خسرت كثيراً من رصيدها السياسي الذي بدأت به، وذلك عائد الى أن عملية الاصلاح الاداري الذي باشرته أصيبت بعثرتين: الأولى تمثلت في توقف عجلة الاعفاءات قبل أن تحقق العملية كل أهدافها، والعثرة الثانية تمثلت في أن بعض التعيينات لم تكن موفقة تماماً.

واذا كانت حكومتنا غير مسموح لها الوقوع في خطأ ما في سعيها لاصلاح الادارة، فقد غُفرت للحكومات السابقة الأخطاء التي وقعت فيها عندما انبرت الى تنفيذ خطوات سميت تطهيراً، بدليل أن مئات الموظفين صرفوا في مرحلة سابقة من الخدمة ثم عادوا الى مراكز أعمالهم بقرارات من مجلس شورى الدولة، وبدليل أن عملية التطهير تلك استثنت منطلقاً، عن عمد، جميع موظفي الفئة الأولى نظراً لارتباط عدد من المديرين العامين مباشرة بأركان ترويكا الحكم آنذاك، وأخيراً لا آخر بدليل التعيينات الخاطئة التي تمت في عهد تلك الحكومات السابقة على قاعدة التقاسم بين أركان ترويكا الحكم، تلك التعيينات التي جاءت بعناصر تعرضت حكومتنا اليوم، ويا للمفارقة، للمؤاخذة على عدم التخلص منها وذلك بتحريض من أولئك الذين جاؤوا بتلك العناصر أنفسهم.

والمفارقة العجيبة أن الحملات المركزة التي شُنت وتُشن على الحكومة ترسم خطاً فاصلاً بين العهد والحكومة، فهي تمتدح العهد (أي رئاسة الجمهورية) وتهاجم الحكومة، وهذا في الوقت الذي تزعم هذه الحملات، زوراً وبهتاناً، أن الرئاسة الأولى تطغى على سير عمل الحكومة. ولا تفسير لهذه المفارقة، حتى لا نقول المناورة، سوى الرغبة، من جهة، في الايقاع بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ومن جهة ثانية النيل من رئاسة الوزراء، ومن جهة ثالثة حرص الذين يرابطون وراء هذه الحملات على حفظ خط الرجعة لأنفسهم مع رئاسة الجمهورية.

قلنا منذ البداية أن التركة ثقيلة جداً مالياً واقتصادياً وادارياً، وأننا لا نملك عصاً سحرية. مع ذلك وُضعت حكومتنا تحت المجهر أمام الحساب العسير واعتبرت مقصرة قبل مرور شهرين على قيامها، وكأنما كان ينتظر منها المعجزات. ونحن لا نعرف حكومة في تاريخ لبنان حققت المعجزات خلال بضعة أشهر أو حتى خلال سنة من قيامها. الا أن المناخ السياسي العام غفر لتلك الحكومات ما لم يغفر لحكومتنا، وربما بسبب التركة الثقيلة التي ورثناها بما لها من عبء على الناس.

اذا كان لنا أن نفسر، من غير أن نبرر، الشطط الذي وقعت فيه حكومتنا فاننا، مع الاعتراف بالتأثير الذي كان لهجمة المال الموظف في تنظيم الحملات الاعلامية والسياسية ضد حكومتنا، وهذا ما لا نملك الامكانات لمواجهته، نقول: أولاً، التركة الثقيلة جداً والأخطار الداهمة المترتبة عليها، جعلتنا أسرى مواقف أملتها ظروف المرحلة تداركاً للأسوأ ولو أنها لم تكن هي الخيار الأمثل.

ثانياً، ان محاصرة الحكومة سياسياً على النحو المشهود جعلت الحكومة تتوكأ على قوى سياسية معينة، فأصبحت هدفاً لحملات المعارضين الجدد، والجدد جداً، لتلك القوى، علماً بأن هؤلاء المعارضين كانوا حلفاء لتلك القوى حتى وقت قريب أيام كان التقاسم عنواناً لحقبة ترويكا الحكم.

ثالثاً، لعل الضغط الذي وجدت حكومتنا نفسها تحت وطأته عزز شعورها بالحاجة الى الانجاز على نحو أدى بها الى التسرع في بعض التعيينات فجاءت غير موفقة. بناءً على ما تقدّم فقد آلينا على أنفسنا اعادة النظر في تقديرنا ورؤيتنا للواقع الراهن، متحملين المسؤولية كاملة أمام الناس».

مساء الاثنين في 15/2/1999 عقدتُ مع الرئيس لحود جلسة عمل استمرت نحو ساعتين، وعندما لوّحتُ باستعدادي للتنحي رفض البحث في هذا الموضوع اطلاقاً، وقد أعرب عن تفهمه التام للبيان الذي أصدرته فبحثنا تفصيلاً في الثغرات التي اعتورت القرارات الادارية التي اتخذها مجلس الوزراء في الفترة السابقة ان على صعيد الاعفاء من الخدمة أو على صعيد التعيينات، وأكد الرئىس استعداده لاستدراك ما حصل ودعم أي خطوات تتخذ لترشيد الأداء على هذا الصعيد مستقبلاً. وقد أكّدت لوسائل الاعلام على الأثر تفاهمي الكامل والرئيس لحود في كل الأمور. وقد تلقّيت اتصالات كثيرة من سياسيين يعربون فيها عن تفهمهم وتأييدهم للموقف الذي صدر عني.سجّل مجلس الوزراء، في أول جلسة عقدها بعد اصداري البيان، ما سمته الصحف ولادة ثانية للحكومة. أدلى رئيس الجمهورية في مستهل الجلسة بكلمة أشار فيها الى الأجواء الاعلامية والسياسية السائدة ورأى تعقيباً على الكلام الذي عبّرت عنه قبل ثلاثة أيام أن الحملات المغرضة التي تستهدف الحكومة انما تنطلق من خلفيات ترمي الى التغطية على الأعباء والتراكمات الادارية والاقتصادية التي ورثتها هذه الحكومة. وأكد الرئيس أن هذه الحكومة تسعى جاهدة الى الصواب والخير العام، وقد تقع في أخطاء غير مقصودة لا تتوانى عن الاعتراف بها وتصحيحها، وأن الفارق كبير بين من يسعى الى صلاح الأمور وبين مسلكيات عمل سابقة ومعروفة كانت تتعمّد الخطأ وكان الصواب استثناء في سلوكها.

وتحدثتُ من ثم فقلت: «انه في ضوء النتائج التي أسفرت عنها حتى الآن عملية الاصلاح الاداري، بات علينا أن نعيد تقويم المراحل التي اجتازتها هذه العملية، وأن نعمل على تصحيح الثغرات التي تخللتها ومعالجة العثرات التي اعترضت سبيل اكمالها، من دون اغفال الايجابيات الكبيرة التي تحققت نتيجة الاجراءات المتّخذة. واذا كان قدر أي عملية اصلاحية أن تصطدم بتعقيدات ومصالح متشابكة، بدليل ما حلّ بمختلف المحاولات الاصلاحية التي أُجريت في عهود سابقة، فان المصلحة العامة تبقى فوق أي مصالح وأن واجب هذه الحكومة تجاوز كل الاعتبارات في سبيل تحقيق الهدف المتوخى وهو بناء ادارة صالحة وفاعلة ومنزهة.

قدّم عدد من الوزراء مداخلات أبدوا فيها ملاحظات حول أداء الحكومة في الفترة السابقة. وفي ختام النقاش وبناء على اقتراح مني، تقرر الطلب الى وزير الدولة لشؤون الاصلاح الاداري، بعد استطلاع رأي هيئات الرقابة، أن يجري تقويماً لأوضاع بعض الذين تناولتهم قرارات الحكومة، وأن يتابع دراسة ما يقتضي اتخاذه من قرارات جديدة وأن يرفع اقتراحاته لمجلس الوزراء لاتخاذ القرارات اللازمة سواء لمعالجة الثغرات التي وقعت فيها عملية الاصلاح أم لاستكمال هذه العملية من مختلف وجوهها، على أن تنجز الاجراءات المتعلّقة بموظفي الفئة الأولى دفعة واحدة في مهلة لا تتجاوز ثلاثة أسابيع.

وكنت صباح ذلك اليوم قد استقبلت الرئيس نبيه بري في السرايا وتحدثنا في مستجدات الوضع، فأبدى دعمه الحكومة وحث على تجاوز كل الصعوبات. وفي استقباله النواب بعد ذلك على جاري عادته كل يوم أربعاء، نُقل عن الرئيس بري كلام يفيد أنه يدعم الحكومة دعماً كاملاً كما يدعمها رئيس الجمهورية. وقال «ان بيان الرئيس الحص يتضمن حقائق وأن الرئيس الحص يرى أن الفرصة مؤاتية للافصاح عنها».

مرّت الأيام ولم تسجّل الحكومة ولادتها الثانية الموعودة. فلقد تعثّرت عندما اصطدمت بعوائق حالت دون تحقيق أهداف عملية الاصلاح الاداري التي باشرتها، وبقيت تلك العوائق اياها تعترض سبيل الحكومة فما استطاعت أن تنهض من كبوتها. لم يأتِ وزير الدولة لشؤون الاصلاح الاداري بالمعالجات الشافية، لأن العوائق التي حالت بين الحكومة واكمال مسيرة الاصلاح الاداري لم تكن فنية بل كانت سياسية. فعندما كانت جهة سياسية معينة تحمي بعض أنصارها كنا نعجز داخل الحكم عن الوصول الى قرار في شأن هؤلاء، وكانت الحماية تأتي لهؤلاء في حالات كثيرة أيضاً من جهات سورية. وبقي هذا الحال على حاله حتى نهاية عهد الحكومة، وقد بتُّ أرفض الاستمرار في عملية الاعفاء من المهام والوضع في التصرف ما دام هناك مسؤولون في الادارة بمنأى عن هذه الاجراءات. في نهاية التحليل يمكن القول إن عملية الاصلاح الاداري اصطدمت بحواجز سياسية عجزت الحكومة عن تخطّيها، وأن الواقع السياسي السائد لم يهضم عملية الاصلاح على هذا المستوى من التغيير.

في 20/2/1999 أَلقى وزير الدولة لشؤون الاصلاح الاداري محاضرة نفى فيها الارتجال في اتّخاذ القرارات الادارية مؤكّداً أنّ «الوضع في تصرّف رئاسة الحكومة تمّ بناءً على تقارير هيئات الرقابة»، وشدّد على أنّ الاصلاح الاداري يحتاج الى اصلاح سياسي. عاد مجلس الوزراء الى الشأن الاداري في 28/7/1999 فعرض لموضوع 23 موظفاً وُضعوا سابقاً في تصرّف رئاسة الوزراء، فأحيل سبعة منهم على القضاء وواحد على ديوان المحاسبة وواحد على التفتيش المركزي وواحد على المجلس التأديبي العام وأنهيت خدمات اثنين واستقال وتقاعد اثنان وكُلّف واحد مهمات، وظلّ أمر خمسة منهم مُعلّقاً في انتظار تقرير الهيئات الرقابية. وقد بُني القرار على تقرير من الهيئات الرقابية عرضه أمام المجلس وزير الدولة لشؤون الاصلاح الاداري حسن شلق. وكنت قد ترأّست اجتماعاً مشتركاً لهيئات الرقابة قبل أيام تناول هذا الموضوع.

وترأّست في 8/8/1999 اجتماعاً للجنة الوزارية الاقتصادية مع هيئات الرقابة فأنجزنا مرسوم نظام دائم لتقويم أداء الموظفين بحيث تغدو عملية الاصلاح الاداري عملية متواصلة تتولاّها هيئات الرقابة كلٌ في نطاق اختصاصها. شارك في الاجتماع الوزراء أنور الخليل وسليمان الطرابلسي وعصام نعمان وجورج قرم وحسن شلق، ومن هيئات الرقابة مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي وديوان المحاسبة. وعرض هذا المشروع في ما بعد على مجلس الوزراء فوافق عليه. ولكن هذا النظام في الواقع لم يؤتِ ثماره المرجوّة فلم نشعر أنّ هيئات الرقابة طبّقته فعلاً أو أنّ وزارة الدولة لشؤون الاصلاح الاداري أولته قدراً ملموساً من عنايتها، مما عزز اقتناعنا أنّ عملية الاصلاح الاداري يجب أن تشمل هيئات الرقابة لا بل أن تبدأ بها. في 4/3/1999 أوقف الوزير السابق شاهي برصوميان قيد التحقيق في مخالفات تتعلّق بصفقات نفط فاحت من بعضها روائح سوء الأمانة اذ اشتبه بأن رواسب النفط المباعة لم تكن رواسب وانما كانت نفطاً. وهي المرة الأولى في تاريخ لبنان التي يتم فيها توقيف وزير سابق قيد التحقيق في أعمال قام بها خلال وجوده في الحكومة. وقد ارتكبت خطأً اذ رحبت بهذه الخطوة. ذلك لأنني بعد التجربة وجدتُ أن القضاء كثيراً ما يستسهل التوقيف الاحتياطي قبل ادانة المتهم، وقد مرت مدة طويلة من الزمن قبل أن يصدر القرار الظني في حق الوزير السابق برصوميان، وبعد ذلك أُخلي سبيله بكفالة مالية.

انني لم أتدخّل يوماً في شؤون القضاء، فهذا ما اعتبرته من المحرمات. ولكن كانت لي فرصة التحدث أسبوعياً مع الأستاذ عدنان عضوم، النائب العام التمييزي، اذ كان يلمّ عليّ اسبوعياً صباح كل ثلاثاء، وكنت أغتنم المناسبة لاستطلاع رأيه في شؤون قانونية وقضائية. وقد تناولت معه غير مرة موضوع التوقيف الاحتياطي الذي يبدو لي غير عادل وأحياناً كثيرة غير ضروري. رأيت فيه ظلماً يلحق بالموقوف أحياناً كثيرة اذ يتم توقيفه قيد التحقيق وقبل أن يثبت عليه الجرم وقبل أن يصدر في حقه قرار اتهامي أو قرار ظني. فبمجرّد توقيف المتهم يتعرض للتشهير ولوصمة عار في المجتمع، وكثيراً ما ينتهي الأمر بالافراج عنه بكفالة أو بمنع المحاكمة عنه في حال ثبوت براءته أو عدم ثبوت تورطه في جرم. والأسئلة التي كانت تطاردني في هذه الحالات: لماذا لا ينتظر القضاء صدور قرار اتهامي أو قرار ظني بالمتهم قبل الاقدام على توقيفه ؟ واذا كان بالامكان الافراج عن الموقوف بكفالة مالية، فلماذا لا يصدر قرار اخلاء السبيل الا بعد احتجاز المتهم فترة لا يستهان بها من الزمن ؟ لماذا لا يطالب المتهم بكفالة مالية قبل احتجازه ؟ والتوقيف ينطوي على معنى الادانة المسبقة قبل انجاز التحقيق، فهل في هذا شيء من العدل أو الانصاف ؟ وما دام التحقيق لا يزال في بدايته عند الأمر بالتوقيف، فبأي شكل يمكن تعويض الموقوف، عن حرّيته المحتجزة أو عن وصمة عار لحقت به في المجتمع، اذا تبيّن بنتيجة التحقيق في ما بعد أنه بريء ؟

وقد بقي برصوميان في السجن أكثر من تسعة أشهر قبل أن يُخلى سبيله بكفالة مالية وقبل أن تحسم قضيته. وأنا أرى، كما يرى كثيرون غيري، أن القضايا، الجزائية منها كما المدنية، تستغرق من الوقت في القضاء اللبناني أكثر مما ينبغي. وكثيراً ما تنطلق المطالبة بالاصلاح القضائي من هذا الواقع المشكو منه.

وكان يأتيني الجواب من المدعي العام التمييزي أن التوقيف الاحتياطي ضروري لسببين: من أجل ضمان سلامة التحقيق ومن أجل الحؤول دون فرار صاحب الشأن الى خارج البلاد أو اختفائه. وكان ردي بالقول: كيف يمكن ضمان سلامة التحقيق بالكفالة المالية عندما يتقرر اخلاء سبيل الموقوف في مقابل كفالة مالية؟ أما الحؤول دون فرار المتهم فيكون بتعميم اسمه على نقاط الخروج في المطار والمرفأ وعند الحدود البرية ومنعه من السفر. وعندما كان يأتيني الجواب أن نظامنا يسمح بالتوقيف الاحتياطي، كنت أجيب بأن نظامنا خاطئ. وعندما يأتيني الجواب أن نظامنا مقتبس من النظام الفرنسي كنت أقول: اذن نظام فرنسا خاطئ. فالتوقيف الاحتياطي يجب أن يقترن بضوابط شديدة.

من هنا كان الندم الذي انتابني في ما بعد على ترحيبي سريعاً بخطوة توقيف شاهي برصوميان. وقد قلت عند اعلان توقيفه: «اننا نبارك الخطوة التي اتخذها القضاء بملاحقة أحد الوزراء السابقين في قضية مالية، ونرجو أن تكون البداية في محاسبة المسؤولين عن مخالفات ارتكبوها. ولنا ملء الثقة بالقضاء في متابعة هذه القضية حتى النهاية. وأذكر أنني في الماضي وجّهت سؤالاً الى الحكومة من موقعي عضواً في مجلس النواب حول القضية المثارة اليوم، وجاء الجواب غير شافٍ. اننا من القائلين ان الاصلاح في الدولة يبدأ بالاصلاح السياسي، وهذا الاصلاح لن يكون الا بالمساءلة والمحاسبة، والقضاء هو خير مرجع لذلك». وأكّدت أن «لا عوائق سياسية تحول دون متابعة ملاحقة الوزير السابق الموقوف.

وتكرر هذا السجال غير مرة مع مدعي عام التمييز في صدد قضية الوزير السابق فؤاد السنيورة الذي كان من طلابي في الجامعة الأميركية في بيروت، وعيّنته بعد أن توليت رئاسة الوزراء للمرة الأولى خلفاً لي في رئاسة لجنة الرقابة على المصارف لدى مصرف لبنان نظراً لمعرفتي بكفاءته العالية واستقامته وخلقه الرفيع، هذا فضلاً عن خبرة غنية في العمل المصرفي اكتسبها خلال خدمته في سيتي بنك.

كانت النيابة العامة على وشك توقيف فؤاد السنيورة غير مرة، وأعتقد أن مناقشتي للمدعي العام التمييزي في هذا الشأن، رافضاً منطق التوقيف الاحتياطي، ساهمت في ثني النيابة العامة عن الاقدام على توقيفه.

وكان نائب رئيس الوزراء، وزير الداخلية والشؤون البلدية، ميشال المر قد كشف النقاب في 18/2/1999، في اللقاء الأسبوعي المفتوح الذي كان يعقده مع النواب قبل ظهر يوم معيّن من الأسبوع، عن قضية مالية اذ تحدث عن مبلغ 51 مليون دولار دفع تعويضاً لشركة ايطالية عن محرقة نفايات قال انها غير موجودة، قال ان الأمر موضع تحقيق دقيق وان نتائجه ستعلن لدى انجازه. فكانت هذه الشرارة الأولى لاطلاق قضية في وجه وزير الدولة السابق للشؤون المالية فؤاد السنيورة، والتي شرع القضاء بالتحقيق معه في شأنها. وقد شرح السيد فؤاد السنيورة موقفه من هذه العملية مؤكداً أن التسوية تمت بناءً على قرار من مجلس الوزراء وأنه هو كان المعترض الوحيد في مجلس الوزراء على هذا القرار. ولكن النيابة العامة أصرّت على تحميله المسؤولية.

في 16/11/2000، وبعد طول تحقيق، أعلنت الهيئة العامة لمحكمة التمييز برئاسة القاضي منير حنين عدم صلاحية القضاء العدلي للنظر في الدعوى المقامة ضد السنيورة من النيابة العامة، وكان في تعليل القرار أن الفعل الذي تنسبه النيابة العامة الى السنيورة يتصل مباشرة بممارسة وزير المال لمهماته السياسية والوزارية. وهذا يعني أن السبيل الوحيد لمتابعة هذه القضية سيكون من خلال المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.

وخلافاً لما بدأت تروّج له أوساط المعارضة، فالملاحقات القضائية لا علاقة لها بالسياسة في شكل من الأشكال من قبيل المحاكمة لعهد مضى. فالحكومة لم تحل الى القضاء أشخاصاً معينين وانما أحالت ملفات بدا أنها تضمنت مخالفات معينة. والحكومة لا تستطيع أن تتغاضى عن الأمر اذا ما وقعت يداها على ملف ينطوي على مخالفات صريحة، ففي تلك الحال لا يسعها الا احالة الملف على القضاء، والقضاء هو الذي يقرر من سيشمله التحقيق ومن الذي ستطاوله الملاحقة. ومن المفروض أن لا تتعرّض الحكومة لاستقلال القضاء من قريب أو بعيد، لذلك فهي لا تتدخل في مجرى التحقيق أو الملاحقة. وقد صرّح النائب العام التمييزي الأستاذ عدنان عضوم لصحيفة «الأنوار» (7/3/1999) بالقول: «لسنا اطلاقاً في صدد محاكمة عهود سابقة لأن القضاء يعاقب بحسب أفعال موجودة في الملف ولا يمكن للقضاء أن يحاكم خارج الملف الموجود لديه، ومن الحرام أن نشوّه أي ملاحقة قضائية من خلال وضعها في الاطار السياسي الضيّق».

* اتفاقية الهدنة * على صعيد آخر، أطلقت اسرائيل مزيداً من المناورات الدبلوماسية والاعلامية في شأن الجنوب وعادت الى الضرب على وتر الترتيبات الأمنية شرطاً مسبقاً لسحب قواتها من لبنان. فصرّحت لهيئة الاذاعة البريطانية أن انسحاب اسرائيل المطلوب سيكون من شأنه اعادة السيادة الى المناطق اللبنانية المحتلة واحياء اتفاق الهدنة. وقد حاول البعض تحميل قولي هذا أكثر مما يحتمل، علماً بأن لبنان كان خلال الثمانينات حريصاً على المطالبة بأن يتضمّن أي قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي في صدد الجنوب اللبناني أو القوات الدولية العاملة فيه اشارة الى العودة الى اتفاق الهدنة. ثم ان المسؤولين اللبنانيين، خلال محادثاتهم مع الأمم المتحدة حول رسم الخط الأزرق، أي خط الانسحاب الاسرائيلي عند جلاء اسرائيل عن الجنوب في مايو (ايار) 2000، كانوا حريصين على التأكيد دوماً أن الانسحاب يجب أن يتم الى ما وراء الحدود المعترف بها دولياً، وفق نص القرار 425، وأن الحدود المعترف بها دولياً هي الحدود التي تم ترسيمها بموجب الاتفاق الفرنسي البريطاني في العام 1923 ما بين بوليه الفرنسي ونيو كومب البريطاني، مع الاشارة الى أن هذه الحدود قد تمّ تكريسها بموجب اتفاق الهدنة المعقود بين لبنان واسرائيل في العام .1949 ويمكن القول ان التزام اتفاق الهدنة هو من صلب التزام القرار 425 الذي ما فتيء يتمسك به لبنان. فاتفاق الهدنة أمر وارد في القرار 426 الذي ينص على آلية تنفيذ القرار 425، وذلك حيث يفيد: «ان تشكيل القوة (الدولية) يتم على افتراض أنها تمثل تدبيراً مؤقتاً الى أن تتمكن حكومة لبنان من ممارسة مسؤولياتها كاملة في لبنان الجنوبي. ان انهاء مجلس الأمن انتداب قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان لن يؤثر على استمرار عملية لجنة الهدنة الاسرائيلية - اللبنانية المشتركة كما ينص قرار مجلس الأمن في هذا الخصوص (الوثيقة رقم 10611 س)».

مع ذلك فقد صرّح الرئيس رفيق الحريري أمام الصحافيين الذين رافقوه في طائرته الخاصة عند قيامه بزيارة للبحرين معزياً بوفاة أميرها، فقال: «ان اعادة استحضار اتفاق الهدنة، في هذا الوقت، ليست في مصلحة لبنان، وان الأفخاخ الدبلوماسية التي تنصبها اسرائيل للبنان يمكن أن تستغل مثل هذا الاستحضار، كما يمكن بالتالي أن تؤثر في موقف لبنان الثابت من رفض الضغوط الماثلة أمامنا، وفي مقدمها المحاولات الاسرائيلية لتعديل تفاهم نيسان». بعد ملف النفط أميط اللثام في 12/3/1999 عن ملف جديد هو ملف الآثار الذي أخضع للتحقيقات الجارية حول قضايا الاهدار والفساد والاختلاس في ادارات الدولة ومؤسساتها. ونقلت الصحف عن مصادر قضائية قولها ان المحامي العام المالي خالد حمود بدأ تحقيقاً واسعاً في ملف الآثار يتناول مخالفات مالية حاصلة في مديرية الآثار، وطلب من مكتب مكافحة الجرائم المالية الانتقال الى الأماكن الأثرية في بيروت والمحافظات لاجراء تحقيق ميداني باشرافه والكشف على كل السجلات والقيود والموجودات المتعلقة بهذا الموضوع. وكان لي تصريح قلت فيه: «لا تسويات اطلاقاً، وكلما وقعت يدنا على وثيقة تتعلق بمخالفة سنضعها في يد الجهات المختصة ولا سيما السلطة القضائية».

في 15/3/1999 تحدثت الصحف عن «غارة» لا سابق لها على مستودعات لتجار الأثريات ومنازل بعض أصحابها كانوا من ذوي الشأن الرفيع والمرتبة السياسية. فقد نُفذت أعمال دهم واسعة أفضت، بحسب المعلومات القضائية الى مصادرة أكثر من ألف قطعة أثرية، وقد شملت الأماكن التي تعرضت للدهم مستودعين لتاجري آثار وأربعة منازل، وعثر في المستودعين على آثار ومنحوتات تعود الى مئات وألوف السنين. وأمر المحامي العام المالي خالد حمود، بعد الاستماع الى نحو 20 شخصاً، بتسليم الآثار المصادرة الى المديرية العامة للآثار.

وتوالت أعمال الدهم الواسعة في اليوم التالي، وقد توزعت بين صور وجبيل وبيروت ومرفأ بيروت واليرزة وجونية وكانت حصيلتها المعلنة مصادرة نحو 500 قطعة أثرية. وصدرت أخبار في الصحف تسيء الى رجل الأعمال الكبير روبير معوّض الذي كان قد اشترى قصر هنري فرعون في بيروت بما فيه من ثروة أثرية، ثم أخذ يضيف الى هذه الثروة بشراء قطع أثرية من خارج لبنان وداخله. فنشرت بعض الصحف أخباراً تشكك في كيفية حصوله على هذه المقتنيات، مما أثار حفيظته، الأمر الذي اضطرّني الى استدعاء ممثله في لبنان وتحميله رسالة شفهية الى السيد روبير مهيباً به تجاوز ما حصل، خصوصاً أن كلاماً تناهى اليّ عن لسانه يفيد أنه قرر تصفية مشاريعه في لبنان والامتناع عن القيام بأي استثمارات جديدة في البلد. وقد زارني روبير معوّض في مكتبي في السرايا الحكومية في 5/4/1999فجلوتُ الأمر معه.

في الذكرى الثانية والعشرين لاستشهاد كمال جنبلاط، ألقى النائب وليد جنبلاط كلمة قال فيها: «أما ما يجري اليوم من حملة ظاهرها اصلاح وباطنها تصفية حساب تصل في بعض حالاتها الى محاكمات اعلامية تسبق المحاكمات التي يشبه بعضها محاكم التفتيش في القرون الوسطى، فيجب التنبه الى أن هذا الأمر يشكل مدخلاً لخنق الحريات، وقد ينقلب السحر على الساحر. ما من أحد يعترض على اصلاح الفساد رغم الثغرات الهائلة في الاصلاح الاداري المزعوم، وما من أحد الا ويطالب باعادة ممتلكات الدولة الى الدولة، ولكن في جو من الديمقراطية والشفافية وليس في جو من سيطرة الأجهزة والتقارير الأمنية على تصرف البعض».

في الواقع أن التحقيقات في ملف الآثار ترافقت مع تغطية اعلامية واسعة، فكان يلاحظ أن وسائل الاعلام كانت تسبق المحققين الى الأماكن التي يقصدونها، مما ينزع عنها صفة الدهم. وكانت التغطية الاعلامية المبالغ فيها وراء الزعم أن التحقيقات كانت اعلامية أو أنها ذات أهداف سياسية.

وراجت في هذه الأثناء أحاديث في وسائل الاعلام تبشِّر بقرب حصول تبديل أو تعديل حكومي. من ذلك ما نسب للرئيس عمر كرامي من كلام في صحيفة «النهار» في 18/3/1999 يعرب فيه عن اصراره على أن التعديل الحكومي آتٍ لا محالة وأن الحكومة سَتُطَعَّم بعناصر جديدة سياسية بعد الانتهاء من موازنة العام 1999 التي كان العمل جارٍ على اعدادها. ومن ذلك ما جاء في تعليق للأستاذ اميل خوري في صحيفة «النهار» في اليوم عينه يبشر فيه بقيام حكومة جديدة من سياسيين بارزين قد تفرضها نتائج الانتخابات الاسرائيلية المقبلة، ربما بعد أن تنجز الحكومة القائمة اجراءاتها الادارية وتتخذ القرارات غير الشعبية التي لوّحتُ اليها في معرض الحديث عن مشروع الموازنة الذي كان قيد الاعداد. وتكررت في الأيام التالية أحاديث التغيير أو التعديل الحكومي في الصحف. وحاول الرئيس لحود تبديد هذه الأجواء فنقل عنه زواره كلاماً يؤكد فيه أن الحكومة باقية حتى موعد الانتخابات المقبلة وأن لا تعديل ولا توسيع. عقد مجلس الوزراء جلسته الأسبوعية في 17/3/.1999 تغيّب الرئيس لحود عن الجلسة فترأستها للمرة الأولى بنفسي. وقد تحدثت في مستهلها عن مشروع الموازنة فقلت: «عندما تسلّمت حكومتنا المسؤولية في الشهر الأخير من عام 1998 لم يكن هناك مشروع جاهز لموازنة العام 1999، علماً بأن الدستور، في المادة 83 منه، يقضي بأن تقدم الحكومة لمجلس النواب مشروع الموازنة العامة في بدء عقد اكتوبر (تشرين الاول) من كل سنة. فكان علينا أن نبدأ من نقطة الصفر. ومع أن مشروع الموازنة يفترض فيه أن يصور سياسة الحكومة المالية وتوجهاتها العامة، فان ضيق الوقت حال دون تضمين مشروع الموازنة كل ما نصبو اليه من رؤى مالية واقتصادية مستقبلية. ومع كل الجهد الاستثنائي الذي بذلته وزارة المال مشكورة في وضع مشروع الموازنة هذا، فانه بحكم الظروف يأتي أقرب الى أن يكون مشروع الأمر الواقع، المثقل بتراكمات الماضي، منه الى تصوير كل تطلعات الحكومة وطموحاتها. ثم ان التركة المالية الثقيلة التي ورثتها حكومتنا، من زيادة كبيرة في النفقات واستحقاقات متوجبة الدفع، ودين عام كبير، سوف تستوجب اتخاذ قرارات صعبة وربما غير شعبية في موازنة العام .1999 ولعل هذا ما حدا الحكومة السابقة على عدم انجاز مشروع الموازنة في موعده الدستوري في تشرين الأول (أكتوبر) 1998 فتُركت القرارات الصعبة لحكومتنا. ونحن في جميع الأحوال جاهزون لاتخاذ القرارات التي تمليها علينا المصلحة العامة دون التوقف عند أي اعتبار آخر. الا أننا سنرفق بمشروع الموازنة تصوراً تقريبياً للتخفيف جذرياً من عبء عجز الموازنة على الاقتصاد الوطني على امتداد السنوات الخمس المقبلة».

عشية سفري الى دولة الامارات في زيارة رسمية، أدليت للصحف الامارتية بتصاريح رددت فيها على انتقادات سبق لرئيس الوزراء السابق السيد رفيق الحريري أن وجهها الى الحكومة. فقلت: «اذا كان الرئيس الحريري ينتقد أخطاءنا فذلك دليل على أننا نعمل». ولفتُّ الى تعرض حكومتي للانتقاد «كما لم تتعرض حكومة سابقة في أول شهرين من عمرها». وقلت: «كانوا يريدون منا العجائب خلال شهرين، فماذا فعلت حكومة الحريري خلال أول شهرين من عمرها في عام 1992 ؟ لقد فعلت شيئاً واحداً هو اطلاق وعد الربيع، وقد جاء ربيع فربيع فربيع ولم يتحقق الوعد».

وقلت ان الموازنة «ما كان يجب أن تكون همّنا اليوم لو أن حكومة الرئيس الحريري الأخيرة وضعت مشروع الموازنة في موعده الدستوري. كان يجب أن تكون هناك موازنة وأن ننشغل بأمور أخرى».

وكشف وزير المالية الدكتور جورج قرم النقاب في 20/3/1999 عن ديون مترتبة على الدولة، من جراء التزامات لم تسددها الخزينة لعدم وجود اعتمادات بها وهي متوجبة للمستشفيات الخاصة والمتعهدين وأبواب انفاق أخرى مثل الاستملاكات التي تمت ولم تدفع قيمتها. وقدر المجموع بأكثر من 1100 مليار ليرة. وقال إن الحكومة ستضطر الى طلب الاجازة من مجلس النواب لاصدار سندات خزينة لتسديد هذه المبالغ. وهذه المبالغ لم تؤخذ في الحسبان عند اعلان مجموع الدين العام الذي ورثته حكومتنا وقيل انه يبلغ نحو 5،18 مليار دولار. بالعودة الى لبنان بعد زيارتي قطر والامارات عُرف أن مجلس الوزراء سيبحث في جلسته المقبلة مشروع موازنة العام 1999، فاستبق رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري هذه الجلسة وأعلن أن زيادة سعر صفيحة البنزين هو بمثابة الكيّ الذي يأتي في النهاية وفي آخر المعالجات وليس في أولها. وقال: «أعتقد أن من يطالب برفع سعر صفيحة البنزين وحده انما يعمل ضد الحكومة والعهد لا بل الشعب. ولا أتخيل أبداً أن الحكومة في وارد أن تلامس سعر البنزين بينما يبقى الخليوي في نعيم...».

عقد مجلس الوزراء جلسته الأسبوعية في 24/3/2000 وباشر فيها درس مشروع موازنة العام 1999، بدءاً بالنفقات المترتبة على الدولة، وقرر احالة مشروع قانون يجيز للحكومة اصدار سندات خزينة خاصة بالدولار الأميركي بما يوازي 1130 مليار ليرة لبنانية وذلك لتسديد بعض الديون المستحقة على الدولة من دون أن تتوافر لها الاعتمادات اللازمة في حينه، بما في ذلك 235 مليار ليرة للاستملاكات و603 مليارات ليرة للمتعهدين و292 مليار ليرة للمستشفيات مترتبة على وزارة الصحة العامة ووزارة الدفاع الوطني. لم ينجز مجلس الوزراء دراسة مشروع الموازنة وسيتابع بحثه فيها في جلسات لاحقة.

وفي اليوم التالي وجّهت كتاباً الى النيابة العامة في ديوان المحاسبة أطلب فيه التدقيق في طريقة صرف أموال عامة من دون توافر الاعتمادات لها، وهو ما يعتبر عملاً مخالفاً لأحكام الدستور وقانون المحاسبة العمومية. وقد شملت المخالفات استملاكات أجراها مجلس الانماء والاعمار وصندوق المهجرين ووزارة الدفاع الوطني، وديوناً للمتعهدين في ذمة مجلس الانماء والاعمار ومجلس الجنوب وصندوق المهجّرين والصندوق البلدي ووزارة الكهرباء ووزارة الهاتف، ونفقات استشفاء لوزارتي الصحة والدفاع وقوى الأمن الداخلي وتعاونية موظفي الدولة. وقد أثار كتابي هذا حفيظة الوزير سليمان فرنجية فاضطربت علاقتي الشخصية به منذ ذلك الحين، والمعروف أن فرنجية كان وزيراً للصحة عندما وقعت تلك المخالفات والتي ترتب عليها استحقاقات كبيرة للمستشفيات الخاصة. ولعل فرنجية وقع تحت ضغط طالبي الاستشفاء وهذا شأن له في حالات كثيرة بلا شك طابع انساني قد يكون من الصعب مقاومته.

وقد أصدر وزير الزراعة سليمان فرنجية في اليوم التالي بياناً جاء فيه: «بما أن الاحالة التي أودعها رئيس الوزراء سليم الحص النيابة العام (في ديوان المحاسبة) عن صرف أموال قد نشرت في الاعلام ولم تبقَ في نطاق مجلس الوزراء، وبما أنني من بين المعنيين بها أؤكد الآتي: أولاً: انني أتحمّل مسؤوليتي كاملة عما قمتُ به أثناء تولي وزارة الصحة العامة من تغطية لنفقات تطبيب الناس، ومكافحة أمراضهم ومعالجة آلامهم، فلا يكون الفقير ضحية فقره وعوزه. ثانياً، ضميري مرتاح الى كل ما قمت به، ولا أريد أن أكون مميزاً، وأتحمل المسؤولية كاملة عن تطبيب الناس أيّاً يكن الثمن».

وكانت هناك تعليقات على الخطوة المتخذة من وزراء سابقين منهم وزير الدولة السابق للشؤون المالية فؤاد السنيورة ومحسن دلول وايلي حبيقة.

ومن وحي كلام قلته في هذا الصدد أمام الصحافيين، نسبت صحيفة «الديار» في 29/3/1999 الى مصدر حكومي كلاماً جاء فيه: «ان رئيس الحكومة، باحالة قضية انفاق 1130 مليار ليرة خلافاً للقانون على النيابة العامة في ديوان المحاسبة، انما قام بما يفترضه الدستور والقانون على رئيس مجلس الوزراء من اشراف ومراقبة لعمل السلطة التنفيذية وأداء الادارات والمؤسسات العامة. وعلى عكس ما يوحيه وزراء سابقون ومعارضون حالياً، فان احجام رئيس الحكومة عن اتخاذ الخطوة التي اتخذها كان سيشكل مخالفة للقانون... ان الرئيس الحص لم يسمِ أحداً ولم يهاجم أحداً أو يشهّر به، بل انه تفهّم مبررات كتلك التي قدمها وزير الصحة السابق سليمان فرنجية».

تسلّمت تقرير ديوان المحاسبة المتعلق بأموال البلديات مساء 30 مارس (اذار) 1999، وهو يقع في نحو 300 صفحة، وينتهي بخلاصة قوامها ثلاث صفحات. وقد تضمن التقرير جملة مخالفات حمّل مسؤوليتها لرئيس مجلس الوزراء وكان هو وزيرالمال، ولثلاثة وزراء هم وزير الدولة للشؤون المالية فؤاد السنيورة والوزيران السابقان للشؤون القروية والبلدية باسم السبع هاغوب دمرجيان. ويخلص التقرير الى «الطلب من النيابة العامة المالية اجراء التحقيقات اللازمة لتحديد المسؤوليات واجراء ما يلزم»، وقد أبلغ الديوان تقريره الى النيابة العامة المالية.

درستُ خلاصة التقرير وتداولت في شأنه هاتفياً مع رئيس الجمهورية، واتفقنا على متابعة البحث في نتائجه قبل انعقاد مجلس الوزراء في اليوم التالي. وقد دعونا أحد كبار القضاة لملاقاتنا في مقر مجلس الوزراء قبل ساعة من موعد انعقاد المجلس. ولدى حضوره عرضنا عليه نتائج تقرير ديوان المحاسبة وطلبنا رأيه في ما يجب عمله. فأشار علينا بعد الاطلاع على خلاصة التقرير على نحو جازم أن لا مناص أمامنا من احالة التقرير على النيابة العامة التمييزية التي تستطيع بدورها احالته على النيابة العامة المالية وفق ما جاء في نتائج التقرير. هكذا اتخذ مجلس الوزراء قراراً باحالة تقرير ديوان المحاسبة على النيابة العامة في محكمة التمييز، وقراراً آخر بتكليف ديوان المحاسبة التدقيق في الصفقات المعقودة في السنوات الثلاث الأخيرة في كل من مجلس الانماء والاعمار ومجلس تنفيذ المشاريع الانشائية ومجلس تنفيذ المشاريع الكبرى لمدينة بيروت ومجلس الجنوب والصندوق المركزي للمهجرين ومؤسسة تشجيع الاستثمارات وهيئة أوجيرو.

وقد تسلم رئيس مجلس النواب نسخة من تقرير ديوان المحاسبة وعلّق بالقول: «هناك أعمال ومشاريع نُفِّذت خلافاً للقانون وباطلة، وهي تستوجب الملاحقات. وأنا في انتظار ما سيقرره مجلس الوزراء حيال هذا الأمر لأن هناك احتمالاً باحالة المخالفين على النيابة العامة المالية لتبدأ التحقيق في الأمر».

رداً على سؤال من صحيفة «النهار»، قلت: «ان ما جرى لا هو محاكمة سياسية ولا محاكمة عهد، ولا هو يستهدف الرئيس رفيق الحريري أو أي جهة معيّنة. وكل ما في الأمر أن مجلس الوزراء تسلّم تقرير ديوان المحاسبة وأحاله على الجهات المعنية. هل نهمل التقرير أو نضعه في الأدراج ؟ ان ما قام به مجلس الوزراء هو أمر طبيعي». وقال النائب العام في محكمة التمييز عدنان عضوم رداً على أسئلة تناولت صلاحية القضاء النظر في هذا التقرير ان القضاء صالح للنظر في هذا الموضوع في حال لم يأخذ مجلس النواب المبادرة». ومعنى هذا أن النيابة العامة ستتوقف عن متابعة هذا الموضوع في ما لو وضع مجلس النواب يده على القضية.

وأدليت في اليوم التالي بتصريح الى صحيفة «النهار» قلت فيه: «ان من يحاول الايحاء أن ما فعلناه موجه ضد الرئيس الحريري أو بعض الوزراء السابقين المحسوبين علىه انما يسيء الى مجلس الوزراء والى مضمون التقرير بمقدار ما يسيء الى الحريري. ان التركيز على الحريري تحديداً يحمل في طياته تحريضاً علينا، وليس هذا هو الواقع، فلقد أحلنا على النيابة العامة تقريراً ولم نفعل أي شيء آخر». وتعليقاً على الضجة المثارة حول قرار الحكومة، أدليت في 5/4/1999 بتصريح قلت فيه:

«يقال ان الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة باحالة تقرير ديوان المحاسبة على النيابة العامة التمييزية انما كانت بدوافع سياسية. أما الرد على هذه المقولة فيقتضينا ابداء الملاحظات الآتية:

أولاً، عندما تسلمت الحكومة التقرير وجدت نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما. فاما أن تتجاهل التقرير أو تحيله الى المرجع المختص، أي على النيابة العامة التمييزية للتحقيق في مضمونه واتخاذ الاجراءات اللازمة في ضوء النتائج. أما تجاهل التقرير فما كان وارداً نظراً الى ما تضمنه من حديث عن مخالفات قانونية وتجاوزات مالية. ولو قررت الحكومة تجاهله لكانت اليوم متهمة بالاخلال بواجباتها وبالتهرب من مسؤولياتها وبالتغطية على المخالفات والتجاوزات التي يتحدث عنها التقرير. فلم يكن أمام الحكومة عملياً اذن سوى خيار واحد هو احالة التقرير على النيابة العامة للتحقيق فيه.

ثانياً، ان ديوان المحاسبة لا يصدر تقارير سياسية، فتقاريره مالية قانونية فنية. ثالثاً، ان الحكومة لم تحل أشخاصاً معينين على النيابة العامة وانما أحالت ملفاً مالياً كما جاءها. رابعاً، الحكومة ليست طرفاً في السجال الدائر. فالتقرير هو لديوان المحاسبة، والذين يردّون عليه هم الذين يعتبرون أنفسهم معنيين بمضمونه. والكلمة الفصل في هذا السجال لن تصدر عن الحكومة بل عن النيابة العامة، وينبغي عدم استباق قرار النيابة العامة».

عقد مجلس الوزراء جلستين متتاليتين في 6/4/1999 و 7/4/1999 لانجاز مشروع موازنة العام .1999 فأقرّ في اليوم الأول نفقات السنة فبلغت بعد اجراء تخفيض طفيف على المشروع المقدم 8360 مليار ليرة. وبالمقارنة مع العام السابق أي 1998 فان الخفض بلغ في الجزء الأول من النفقات نحو 400 مليار ليرة شملت الغاء التدبير رقم (4) للعسكريين والنفقات السرية في بعض الوزارات والنفقات غير الملحّة لموازنات الوزارات المختلفة. أما في الجزء الثاني، والذي يشمل النفقات الانشائية والاستثمارية، فزادت النفقات نحو 308 مليارات ليرة عمّا كانت عليه في موازنة 1998، وهي تشمل مخصصات جديدة للصندوق المركزي للمهجّرين. وقد أُدخلت في تقدير نفقات العام 1999 تكلفة سلسلة الرتب والرواتب الجديدة التي كان أقرّها مجلس النواب قبل شهر من مجيء حكومتنا في عام 1998 والتي قدّرت بنحو 450 مليار ليرة سنوياً.

وطلبت الحكومة اللبنانية في ذلك اليوم انعقاد مجموعة المراقبة لتفاهم نيسان على عجل للنظر في اقدام اسرائيل على ابعاد 18 مواطناً من بلدة شبعا، وبين هؤلاء ذوو أربعة عناصر مما يسمى «جيش لبنان الجنوبي» فرّوا قبل يومين الى المناطق المحررة وسلموا أنفسهم الى الجيش اللبناني. وشهدت بلدة شبعا ما يشبه بداية انتفاضة من جراء احتجاز امامها الشيخ اسماعيل دلّة في مقر جهاز الأمن في محلة زغلة اثر اطلاقه دعوة من جامع البلدة الى الجهاد ضد القوات الاسرائيلية. فتجمهر الأهالي في ساحة شبعا وانطلقوا في موكب سيّار الى زغلة وحاولوا اقتحام المقرّ، فأطلقت حامية المقرّ النار ارهاباً. وأدى تحرّك الأهالي الى اطلاق الشيخ المعتقل. وقد شغل هذا الحادث مجلس الوزراء في مستهل جلسته.

أنجزت الحكومة مشروع موازنة العام 1999 في جلسة مجلس الوزراء الاستثنائية التي عقدها في اليوم التالي. فاذا بنسبة العجز المقدّرة تبلغ 2،40 في المائة من مجموع النفقات. فبلغ تقدير النفقات 8360 مليار ليرة وبلغ تقدير الواردات 4990 مليار ليرة. وكان بين الرسوم والضرائب المقررة زيادة الرسم على سعر صفيحة البنزين بمقدار 2000 ليرة، فأصبح سعرها 500،12 ليرة، وكان الرئيس لحود يمانع في أية زيادة على سعر البنزين، وكان قد صرّح بذلك من قبل، ولكنه اقتنع بالزيادة المقدّرة بعد أن لمس الحاجة الملحّة اليها.