من أجل طريق إلى السلام.. يمر عبر فلسطين

TT

هناك تحول منذ رحيل ياسر عرفات في الاهتمام الدولي، بعيدا عن العراق، نحو الأزمة الأخرى الأقدم والأكثر دواما، وهي أزمة الشرق الأوسط. وقد حث توني بلير الرئيس المنتخب لولاية ثانية جورج بوش على تنشيط عملية السلام الاسرائيلي الفلسطيني، التي سماها «التحدي السياسي الأكثر تأثيرا في عالمنا المعاصر»، بينما وصفها وزير الخارجية البريطاني جاك سترو باعتبارها أكثر أهمية من العراق ذاته.

إلى ذلك وجدت وجهة النظر بترابط الأزمتين، تأكيدا قويا في مكان مثير للانتباه. ففي تقرير يناقض بشكل صريح أرثودوكسية بوش، قال مجلس العلوم الدفاعية في وزارة الدفاع الأميريكية، ان مشاكل واشنطن في العراق وفي أماكن أخرى، ليست نابعة من كراهية المسلمين للحريات الأميركية، وانما من سياساتها و«ما يرون أنه دعم أحادي الجانب لصالح اسرائيل، وضد الحقوق الفلسطينية».

فهذا الاكتشاف بالنسبة للعرب والمسلمين، اقل من اكتشاف أرخميدس. فقد كان الأمر بالنسبة لهم بديهيا: المشكلة الفلسطينية، وهي من ارث الكولونيالية العربية، وخطرها يتصاعد اليوم، كما كانت دائما، وقد ظلت على الدوام، المصدر الأعظم للمشاعر المناوئة للغرب في المنطقة. وهكذا فإنه اذا ما كان للارهاب أن يرتقي الى مصاف التهديد المعاصر الأعظم للنظام العالمي، وإذا كان العراق هو الميدان الأكثر استفادة من ذلك، فلا بد أن تكون للفلسطينيين علاقة وثيقة بهذا الشأن.

ففي خطاب مسجل على شريط فيديو، قال أسامة بن لادن إن مشهد اسرائيل وهي تقصف بيروت خلال غزو عام 1982، هو أول ما ألهمه بفكرة تفجير برجي مركز التجارة العالمي. والفكرة التي ربما خطرت في باله لاحقا، والتي ولدت من الادراك الحاد، بأن ذلك الدعم الذي يحظى به بين جماهير العرب والمسلمين، لا يأتي من آيديولوجيته المثالية، بقدر ما يأتي من تماثله مع أبرز رموز القضايا العربية.

وفبالنسبة لشعوب المنطقة، فالشيء المدهش هو الطريقة التي تجاهل بها الغرب تاريخيا، وعلى نحو متكرر مركزية القضية الفلسطينية في نفسيتهم، حيث العراق يعتبر آخر الأمثلة وأكثرها فظاظة. صحيح ان الأوضاع غير الطبيعية في عراق صدام حسين كانت لها أصولها وآلياتها، وان معظم العراقيين كانوا يريدون التخلص من صدام بأية وسيلة كانت، ولكن، وفي المقابل، فكلما بات «التحرير» الذي قادته الولايات المتحدة لمصلحة ذاتية، يدار على نحو سيىء وقمعي وفظ ودموي ومليء بالفوضى، فالنظر اليه من جانب العرب عموما، ومن ثم من جانب العراقيين أنفسهم، لن يعدو كونه عدوانا شبه استعماري في تاريخ التدخل الغربي في المنطقة، أي «فلسطين أخرى» في الواقع.

وقد كانت هناك تحذيرات خطيرة قبل الغزو بأنه سيؤدي الى زيادة النزاع الفلسطيني الاسرائيلي اشتعالا. وقد رأى بلير نفسه بوضوح أنه كانت فكرة جيدة جدا، لو انه جرى تمهيد سبيل الغزو، بمسعى جدي لاقناع الفلسطينيين بأن اصلاح الأوضاع في متناول اليد أخيرا. ولكن صقور المحافظين الجدد، الذين كانوا يديرون السياسة الأميركية، قلبوا هذه الأولويات. فالطريق الى القدس والسلام في الأرض المقدسة، يمر لديهم عبر بغداد. ولكن ما كان يبدو بالنسبة لبلير مجرد تحفظ متبصر للخطر قبل الحرب، يبدو الآن، في احيائه لذلك، أكثر شبها بمحاولة يائسة لانقاذ ما يمكن انقاذه، من أزمة حادة وتزداد حدة بمرور الأيام.

كان الرئيس بوش قد وعد الشهر الماضي باستثمار جهود سياسية في أزمة الشرق الأوسط الأخرى. ولكنه لم يكن واضحا بشأن كيفية ذلك الاستثمار. وفي كل الأحوال، فإن تاريخ مساعي السلام الاسرائيلي الفلسطيني بأسره، يشير الى انه من بين جميع الرؤساء الأميركيين، فإن بوش، الذي ظل داعما لسياسات أرييل شارون اليمينية، على نحو أعمى وبدون تحفظ، هو الأقل إصغاء، بطريقة مثمرة، لما يتعين على بلير أو حتى مجلس مستشاريه في وزارة الدفاع أن يقولوه.

وهذا لا يعني أن الرؤساء قللوا من أهمية النزاع العربي الاسرائيلي. ولكن وإذا ما اخذنا في الحسبان، أن الأمر في جوهره، يعني جزءا قليلا جدا من البشر بحساب من يصنعون فيه القرار، نجدهم في الواقع بددوا الكثير من الوقت والطاقات والموارد السياسية غير المتكافئة في محاولة حل ذلك النزاع.

ومن هنا فالمشكلة الحقيقة، من خلال الانحياز لإسرائيل الذي ورد في تقرير وزارة الدفاع، هي ان الولايات المتحدة لم تكن قادرة أبدا على الاعتراف بالطبيعة الحقيقة للمشكلة، والتي هي اساسا واحدة من مشاكل التحرر من الاستعمار. ولهذا فانه، وبغض النظر عن فتح النزاع لفرص جديدة، فإن موت عرفات لن يؤدي إلا إلى إعادة تأكيد ذلك التشوه الحادث منذ الولادة، برغم مجيئه هذه المرة في ظروف أكثر حرجا مما سبق، بسبب عواقب وتبعات أحداث العراق وتنظيم «القاعدة».

ولذلك، وإذا ما كان للفلسطينيين أن يتأسوا بمواريث الشعوب المستعمرة الاخرى، فلن تكون هناك اسرائيل أو دولة يتعايش فيها شعبان، مثل جنوب افريقيا، ولكن الفلسطينيين لم يطالبوا بذلك، وإنما التزموا من خلال اتفاق اوسلو بالتنازل عن 78 في المائة من وطنهم الاصلي، فيما يمكن اعتبار هذا التنازل، واذا تم التوصل الى تسوية، بأنه سيكون فريدا واكبر مساهمة من الفلسطينيين في التوصل الى تلك التسوية.

لنا أن نذكر هنا أن كل ذلك تم تحت رعاية عرفات، فيما ظل الأميركيون يصفونه بأنه «عقبة» في طريق السلام، وأنه غير ديمقراطي، وانه يجب ان تحل محله قيادة «معتدلة» ونظيفة وديمقراطية، تكون قادرة على إقناع الشعب الفلسطيني بإعطاء المزيد، فيما يتعلق بالحدود والقدس واللاجئين والامور المتعلقة بالدولة، ولكن أي قيادة فلسطينية جديدة لن تفعل ذلك، على الاقل اذا كانت قيادة نظيفة وديمقراطية، لأنه يتعين عليها في الاساس أن تعكس الارادة الشعبية. ومن هنا يجب ان يفكر بوش في ان شارون ايضا يمثل عقبة في طريق السلام، وأن «الاعتدال» الاسرائيلي مهم ايضا مثل الاعتدال الفلسطيني المطلوب، ولكن، وللأسف، من غير المرجح ان يرد مثل ذلك التفكير من الرئيس بوش.

والشاهد أن ما يمكن قوله هنا، هو ان سياسات واشنطن الخاصة بالشرق الاوسط، دائما ما تصوغها السياسة المحلية، وليس الواقع الماثل على الارض. فقد فاز بوش بولاية ثانية من خلال حملة انتخابية تبارى فيها المرشحون في رفض فكرة تعامل الولايات المتحدة بصورة منصفة، مفضلين إخلاص واشنطن وولاءها لاسرائيل. وليس ثمة شك في ان بوش بات متأثرا بعمق بمجموعة المحافظين الجدد، واللوبي الموالي لاسرائيل الذي يهيمن عليه اليمين الموالي لحزب الليكود والاصوليين المسيحيين.

أما على الجانب العربي، فالعرب لا يعرفون ما اذا كان الرئيس بوش يعتزم بعد انتخابه لولاية ثانية، المضي قدما في مشاريع مثل مشروع العراق، في إطار مخططات المحافظين الجدد للمنطقة. وهناك مشكلة إيران التي ترى واشنطن أنها قد اوشكت على امتلاك سلاح نووي. وهذا الوضع سيكون بالغ الصعوبة والتعقيد، لأن اسرائيل، التي تملك هذا النوع من السلاح، عازمة على الانفراد والاحتكار به، فيما أشارت الى ان الولايات المتحدة اذا لم تفعل شيئا بشأن السلاح النووي الايراني، فإنها ستتصرف بنفسها، وبالطبع، فمن شأن أي مواجهات يمكن أن تنجم عن مثل هذا السيناريو أن تقلب كل الموازين والحسابات في المنطقة، وعلى وجه خاص بكل ما يمس النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، بل والصراع العربي الإسرائيلي.

* كاتب وصحافي بريطاني

عمل مراسلا لصحيفة «الغارديان» في الشرق الأوسط من عام 1963 حتى 1997 .

خدمة «لوس انجليس تايمز»

ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)