حتى لا تتحول المنظمة الدولية إلى الأمم المتحدة الأمريكية..!

TT

لا يستطيع مفكر أو باحث سياسي أن يغفل الجذور الأولى لفكرة الأمم المتحدة، والتي وتعود إلى المفكر الفرنسي جان جاك روسو الذي أعطى العالم عام 1762، قطعة رائعة من خططه التي نشرت في أمستردام تحت عنوان «في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي».

وكلنا يعرف الصيحة الجريئة التي استهل بها الفصل الأول «ولد الإنسان حرا وهو في كل مكان مكبل بالأغلال»، وقد افتتح روسو كتابه بمبالغة مقصودة، لأنه عليم بان للمنطق سلطانا منوما قويا، وقد أصاب في ضربه على هذه النغمة العالية، لان هذه العبارة أصبحت شعار قرن بأكمله. وافترض روسو هنا وجود حالة طبيعية بدائية لم تكن فيها قوانين، واتهم الدولة القائمة بتدمير تلك الحرية واقترح بديلا عنها «إيجاد شكل من المجتمع يدافع عن شخص كل عضو فيه، وعن متاعه، ويحميه بكل ما أوتي ذلك المجتمع من قوة».

وبعيدا عن الإغراق في فكر روسو وآليات نظريته، فقد وجد المجتمع الدولي نفسه صباح الثامن والعشرين من يوليو عام 1914، عندما انطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى، في حاجة ماسة إلى كيان يصون أمنه وسلامه، بعد أن خبر نوعا من الحروب لم يعهدها، ووقر لديه أن فكرة العقد الاجتماعي عند روسو إنما يمكن أن تنتظم من خلالها دول العالم. وقد جعلت الحرب العالمية الثانية من هذا التجمع الدولي أمرا واجب الوجود كما يقول الفلاسفة وجماعة المتكلمين.

لكن في نشأة عصبة الأمم المتحدة وفي تطورها، حتى وصولها إلى هيئة الأمم المتحدة المعروفة بشكلها الحالي، كبيت من الزجاج على حد وصف الدكتور بطرس غالي الأمين العام السابق لها، كان الانحراف عن فكرة العقد الاجتماعي، بأيلولة الأمر إلى خمسة أعضاء دائمي العضوية يتوقف على ما يحكمون به أو ما يرفضونه مصير البقية .

ومن عبث الأقدار أن نجد عند روسو أيضا تشبيها يتوافق مع ما حدث منذ نصف قرن ونيف.

يقول روسو :« يقال إن خمسة رجال أصابهم الجوع وكان يكفي التهامهم خمس (بضم الخاء) ضحية كالإبل لكي يشعروا بالشبع، ومن ثم اتفقوا على التعاون لصيده، ولو أن الجوع داهم شخصا واحدا، لكان يكفيه صيد أرنب واحد وسيترك الإبل حرة، دون مبالاة بما يلحق أقرانه الأربعة، الذين قد يموتون من الجوع ... وهنا يحق التساؤل حول المعنى والمبنى لما تقدم؟

المغزى من هذه الأقصوصة القصيرة، أن حال هؤلاء الرجال الخمسة يشبه حال خمس دول في نظام عالمي، أمدها المشروع الأساسي بما يعرف بحق النقض الفيتو، كي تستأثر بخيرات الغابة. وتتعاون هذه الدول كما يتعاون الصيادون، وذلك عندما يكون الخطر أو ما يتصور كذلك يتهدد المجموعة.

بيد انه إذا نجح شخص واحد من هؤلاء الخمسة في صيد أرنب واحد فيعني أن البقية ستتعرض للجوع، لذلك كان التعاون أمرا ضروريا لاصطياد فريسة تكفي المجموعة.

المصلحة، إذن هي التي تحدد هذا التعاون وتبعد المجموعة عن الخلافات، وان حدث بعضها فإنما يكون حول طريقة اقتناص الفريسة وليس حول الفريسة.

والآن، وبعد كل هذه العقود من السنين، ما اقرب الأوضاع الآنية للمنظمة الدولية من فكر روسو السابق، مضاف إليها الطرح الأخير. ولعل هذا ما دعا الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان قبل عام، أن يعلن أمام عشرات من قادة العالم «أن على المنظمة الدولية أن تتغير آو أن تتلاشى وتنزوي». وقد بدا واضحا من استقراء التصريحات التي أدلى بها عنان في غمار الاستعدادات لبدء اجتماعات الدورة التاسعة والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) الماضي، أن الرجل يريد أن يترك خلفه منظمة قوية نشيطة عندما يترك منصبه بعد نهاية فترته الحالية عام 2006؟

ولكن، وفي المقابل، بات من الواضح أن طموح الرجل يتعارض مع تطلعات «الشخص» الامبراطورية، وآراء الحاشية الجديدة المعروفة بالمحافظين الجدد تارة، واليمينيين المسيحيين تارة أخرى، آو الليكوديين الأمريكيين مرة ثالثة، وان كان يجمعهم عقد غير اجتماعي، قوامه التشدد والمغالاة وآلياته فوهات البنادق وحمم المدافع.

أصبح كوفي عنان إذن ومن خلفه الأمم المتحدة، عائقا أمام مشروع القرن الأمريكي بعد أن وصف الغزو الأمريكي للعراق بأنه غير شرعي، ولم يعد رجل واشنطن في البيت الزجاجي، ولذا فمشروعات حجب الثقة عنه تطرح، وملفات الفساد حوله تقرأ، إن حقا أو كذبا. أما المؤسسة برمتها، فأضحت بمثابة الشريك المخالف غير المرغوب فيه، والذي يتحتم السعي لتكبيل حركة أدائه.

وفي هذا السياق يصبح من الطبيعي قيام جماعات مثل MOVE AMERICA FORWARD

«حرك أمريكا للامام» بحملات تلفزيونية، لطرد الأمم المتحدة من على الأراضي الأمريكية أمرا طبيعيا، وهي جماعات تجيء كنتاج للتحالفات التي أوصلت بوش ثانية للبيت الأبيض، وضمنها منظومة من الاتهامات التي علقت على جسد المنظمة الدولية من شاكلة الدفاع عن منظمات إرهابية، ومعارضة غزو العراق، وتحويل بلايين الدولارات المخصصة للمساعدات الإنسانية إلى الإرهابيين في فلسطين، ومساعدة متمردي العراق، ولذا فقد حان الوقت، كما يقول منطوق إعلان الحملة التلفزيونية «لطرد الأمم المتحدة من الولايات المتحدة»، وعلى الأمريكيين التوقيع على عريضة بذلك.

وإذا كان التقرير الذي صدر الأيام الماضية تحت عنوان

«مسؤولياتنا المشتركة : الأمن المشترك في القرن الحادي والعشرين»، والذي اعد من قبل ستة عشرة شخصية من الشخصيات العالمية البارزة يحمل في ثناياه الكثير من الآليات والمقترحات الايجابية لإصلاح حال الأمم المتحدة لجهة العديد من القضايا موضع الاهتمام العالمي في العقود المقبلة، إلا انه يصبح من قبيل الأحلام المخملية، إذا تصورنا رضاء واشنطن عنه.

يقول التقرير، إن إمكانية استخدام القوة بشكل شرعي، لا يعني دائما انه يجب حسب ما يمليه الضمير والعقل السليم بأن يتم استخدامها. وتقترح اللجنة في تقريرها أن يتم اعتماد خمسة شروط في مجلس الأمن، من اجل إضفاء الشرعية على استخدام القوة، وهي النظر في مدى جدية التهديد، والهدف الحقيقي، والسبيل الوحيد المتبقي، والأساليب المناسبة، وتقييم الانعكاسات لاستخدام القوة.

ولكن السؤال هنا هو : وهل لقضايا العقل والضمير والتفكر والتبصر اعتبار، لدى من يريد أن تصبح الأمم المتحدة ذراعا أضافية تكال اللكمات للعالم من خلالها، وغطاء للمشروع الإمبراطوري الجديد، يتم عبره تمرير أجندته؟

أن تصادما حتميا يقع الآن، بين إرادة العالم في عقد اجتماعي حقيقي، وبين الرغبة الأمريكية في إعمال عقدها العسكري الخاص حول البشرية بأكملها.

وإذا كان روسو قد طرح نموذجا مبدئيا للدفاع عن كل شخص من أعضاء المجتمع الذي تصوره، بما يصون بلغة اليوم وحدة أراضيه واستقلاله، ويمنع «الشخص» من استخدام القوة أو حتى التهديد بها ضد أي عضو من أعضائه، فالبحث يصبح اليوم عن الشكل الذي يلائم الموقع والموضع للبشرية في القرن الحادي والعشرين، لجهة كيان دولي جديد، به من العدالة أكثر مما فيه من إجحاف الخمسة الكبار، وإلا فسنشهد أمما متحدة ترتدي علما أميركيا صريحا.

* كاتب مصري