بكل نية حسنة

TT

أبلغني الدكتور عبد المنعم سعيد مرة (ونقلت ذلك هنا) ان في مصر عتبا شديدا عليَّ ومرارة عميقة، لأنني لا أكف عن الكتابة عن عمالقة الماضي، كأنما مصر عاجزة اليوم عن اعطاء سواهم. تذكرت عتاب الدكتور سعيد، الودي والصارم، وأنا اقرأ هذا المساء قصة مترجمة الى الانكليزية للطيب صالح بعنوان (قبضة (أو حفنة) من التمر). وخطر لي، من اعطى السودان في حجم الطيب صالح الى الآن؟ ومن اعطت ليبيا في مكانة الصادق النيهوم؟ ولماذا ليس في كل فرنسا الآن البير كامو واحد؟ ولا في جميع بريطانيا والجزر والبلاد الناطقة بالانكليزية، برتراند راسل آخر؟ ولماذا ليس بين 300 مليون اميركي ارنست همنغواي او ويتمان؟ وليس في الجنوب الاميركي وليم فوكنر؟ وليس في بلجيكا جورج سيمونون؟ ولماذا كان في لبنان العام 1960 عشرة شعراء على الأقل من وزن «الأخطل الصغير» وامين نخلة وسعيد عقل؟ ولماذا كان في ايطاليا القرن الماضي اشهر الروائيين والفلاسفة واليوم هناك بيرلسكوني؟ ولماذا ليس في ايطاليا اليوم سينمائي آخر من نوع فيلليني ولم تخلف ممثلة صوفيا لورين؟ ولماذا لا يعرف أحد منا اسم رئيس وزراء كندا منذ غياب بيار اليوت ترودو؟ ولماذا لم يخلف داغ هامرشولد احد في الأمم المتحدة؟ ولماذا تساوي لوحة من القرن التاسع عشر ألف ضعف ما تساويه لوحة هامة اليوم؟ ولماذا توقفت الجامعة الاميركية في بيروت عن تخريج اهم الأجيال العربية كما كانت تفعل؟ ولماذا لم تولد ام كلثوم اخرى منذ ثلث قرن الى اليوم، ولم تظهر فيروز اخرى، ولم يصدر «جبل الدروز» الى الخارج «اسمهان» او فريد الأطرش مرة ثانية؟

عندما نعطي السابقين حقهم في التاريخ لا يعني ذلك الاستهانة بحقوق الاحياء ومكانتهم ومنجزاتهم. ولا يضير مصر اطلاقا ان نقول انها لن تعطي ام كلثوم او طه حسين من جديد: الأعمى الذي انار العالم العربي، والفقيرة التي حولت فن الغناء الى اسطورة.

هذه الدنيا. لكل عصر لون وعباقرة وطابع وزينة. لن ابحث عن طيب صالح آخر في السودان او في أي مكان آخر من العالم العربي. لكن هذا لا يعني انني لن ابحث عن كاتب جيد جديد. ولن ابحث عن نزار قباني جديد لأنني تخطيت عمر السذاجة. ولكنني ما زلت اقلب الكتب والمجلات واي صفحة تصادفني، بحثا عن قصيدة جميلة، في أي لغة من اللغات. عندما نتحدث عن روعة الماضي لا نقصد اطلاقا التقليل من شأن الحاضر. ولا الانتقاص من قدر احد او زمن او عصر. وكوني لا ازال استمع الى ام كلثوم بالشغف الماضي لا يعني ان مصر لم تنتج مطربين جددا. او اننا في لبنان لم نشغل البرلمانات العربية بالآنسة عجرم ورفيقاتها.

وكنت قد قرأت قبل ثلاثين عاما كتابا بعنوان «البرلمان» يتحدث عن تجربة وتاريخ وممارسات البرلمان الهندي. تحفة، نسيت للأسف اسم مؤلفها. لكن ان انسى لا انسى ارتقاء القضايا المطروحة في البرلمانات العربية. اللهم رأفتك.