عام يتعثر ببعضه

TT

هل كان عامنا الراحل صديقا أم عدوا، هل نذرف دمعة أسى، ونطلق أنة ألم، منه لا عليه، أم نرسم ابتسامة حبور على وجوهنا، وهو يلملم ثيابه لينغمر في محيط التاريخ اللانهائي؟

كم هو مريح أن نفعل ذلك، لو أن السنين تتذوق ملح الدموع، او تتلقى وخز الانين في جسدها المديد، غير أن ذلك لم يجد اجدادنا، كما لن يجدينا. لنجرب شيئا آخر إذن.

سأتحدث عن عام 2004 العربي، مع أن هناك الكثير المثير مما جرى في انحاء الارض الاربع، وكم كان موحيا لي أن يؤكد كثير ممن شاركوا في استطلاع أجراه موقع «بي بي سي» العربي على الانترنت، أن مجزرة مدرسة «بيسلان» في جمهورية أوسيتيا الشمالية في روسيا، هي ابرز أحداث العام، هذه المجزرة التي انتهت بمقتل 331 شخصا بينهم 172 طفلا في بداية سبتمبر، على يد مجموعة اصولية شيشانية، كانت تحتجز طلاب المدرسة.

عربيا، ودون التزام بالتعاقب الزمني، كان من الابرز وفاة ياسر عرفات «الرمز»، والشيخ زايد آل نهيان، وهما نموذجان مختلفان لنمط السلطة العربية، عرفات كان مثار اختلاف، دوما، وزايد كان موطن اتفاق. عرفات جسد الانكسار، وزايد حقق الحلم، عرفات دمعة، زايد بسمة، ويبقى خلف ذلك كله اختلافات المكان و«القضية» والشروط... لكنها لدى النظر الأعمق القابض على جوهر الاشياء: تفاصيل! رغم ثقلها ورسوخها.

وعربيا أيضا، وغير بعيد عن هذا، غاب وجه حماس وميناء حلمها، الشيخ احمد ياسين بصاروخ اسرائيلي، ومثله بعد عدة اسابيع، تلميذه عبد العزيز الرنتيسي، الذي كان يعبر الدرب الى باحة الرمزية، لولا معاجلة الموت الاسرائيلي إياه. وكم هو معبر أن تسقط ثلاث ورقات خريفية من شجرة الاحلام والاوهام الفلسطينية، ورقة كانت متعددة الالوان، وورقتان فقيرتان إلا من لون واحد، الاولى ابو عمار، والاخريان، ياسين والرنتيسي، فهل يعني كل ذلك، بداية خريف الاساطير؟

من يدري، فلربما تطلع اوراق اخرى لدنيا المساكين، ويستمر سلطان الرمز، وتمتد ذهنية القطع، ولغة: «لنا الصدر دون العالمين او القبر»، او لربما تنفتح نافذة أخرى ينفذ منها هواء نقي، ونهار مختلف غير الذي كان طيلة خمسين عاما من عمر هذه المأساة، مع أن العراف التونسي «حسن الشارني» الذي تنبأ بمقتل الاميرة ديانا، وحدث 11 سبتمبر، ووفاة ياسر عرفات في ظروف غامضة، يتنبأ هذه المرة بأن محمود عباس ابو مازن سيصرع، وأكد ان «ابرز حدث في الشرق الاوسط سيكون اغتيال محمود عباس بين شهري مايو ويونيو»، ربما كان العراف التونسي اكثرنا قدرة على رؤية مآلات السياسة في عالم العرب، وطريق الواقعيين، خصوصا أن انساننا العربي، في أغلبيته، يتعاطى مع سياسته بما يقارب طريقة العراف التونسي.

سعوديا، كان العام الذي يحتضر ساخنا وسريعا وكثيفا، اتحدث هنا عن الساحة الداخلية، فمسلسل الإرهاب والعنف الأصولي، لم يتوقف، لكنه بلغ ذرى عالية في شهري مايو ويونيو، ففي الأول من مايو تقع عملية خارج نطاق التصديق، شبان مسلحون «يغزون» شركة ذات صلة بالصناعات البترولية، في مدينة ينبع على ساحل البحر الاحمر، وتنهمر الصور المذهلة: سحل جثة غربي في الشارع، اطلاق النيران في الطرقات، ثم مواجهة تتمخض عن قتل الشبان الثلاثة في شوراع ينبع.

وفي 29 من مايو أيضا، عملية اكثر ادهاشا من الاولى، استيلاء على مجمع سكني في الخبر على الساحل الشرقي للسعودية، وقتل مجموعة من الرهائن «الكفار» الغربيين، ثم مواجهة مع الامن السعودي، ليهرب بعض المنفذين فيروون شيئا من «غزوتهم»، الراوي، الذي سمى نفسه «فواز النشمي» في مجلة صوت الجهاد، الناطقة باسم القاعدة، لقي مصرعه مع قائد التنظيم عبد العزيز المقرن في 18 من الشهر التالي، واتضح ان اسم النشمي الحقيقي هو تركي المطيري... لقد كانت أسابيع هذين الشهرين بالذات، تقطر سوادا وتشاؤما، وزاد من الحنق والقلق بروز عمليات الخطف والقتل، ثم تسجيل الشرائط التي تشبه شرائط جماعات الزرقاوي واشباهه في العراق، وتبلغ درجة التناظر حدا غريبا، حتى في لون الملابس ونبرات الصوت... إنه نفس النبع وان اختلفت المصبات.

قتل كينث ساكوزي في حي الملز وسط العاصمة في 13 يونيو، وقبله روبرت جاكوب في منزله بتاريخ 8 من الشهر نفسه، قتله فيصل الدخيل بمسدسه وهو يطلب الانتظار والتروي من قتلته، ثم جاءت ذروة عمليات الخطف من خلال خطف العجوز المريض بول جونسون، ثم تصويره، ثم حز رأسه بسكين.

وهنا فاض الاناء، وتحولت الرياض الى مدينة من الاسئلة، وبلغ قرار الرد نقطة اللاعودة، وبالفعل كان الرد سريعا وصاعقا من خلال اقتناص قائد التنظيم الاشرس عبد العزيز المقرن، ومنفذ قتل جونسون، فيصل الدخيل، مع رفاقهم، دفعة واحدة في إحدى محطات الوقود في حي الملز.

هدأت الوتيرة بعد ذلك، دون ان تنقطع، وتم في المرحلة التالية قتل عيسى العوشن، اعلامي القاعدة وأحد منظريها في 20 يوليو، والعثور على رأس جونسون في ثلاجة المنزل التابعة لصالح العوفي، احد ابرز اعضاء القاعدة. وكان ختام الحصاد الارهابي، عملية القنصلية الامريكية في جدة، في اليوم السادس من الشهر الاخير من العام الذي يحتضر.

لكن هناك خطوطا اخرى كانت تعمل ايضا، غير خط الارهاب والعنف الديني، كان هناك حدث الانتخابات البلدية، الذي يعتبر حدثا ضخما لولا زحمة الاحداث الضخمة، وحدث اعتقال مجموعة من الاكاديميين، على خلفية مطالبات باصلاحات، ثم بدء محاكمتهم، علنيا، لاول مرة في قضية سياسية، لكن الجلسات التالية، شهدت تعثرا على هذا المضمار.

وكان هناك حدث آخر لا يقل أهمية، وهو إشهار الجمعية الوطنية الاهلية لحقوق الانسان، وبدء عملها من الداخل وفي النور، وبعلم رسمي، ولاقت ولادة صعبة، لكنها بقيت، وكان ملفتا للنظر تقريرها الهام عن وضع السجون في السعودية، هذا التقرير نشر في صحيفة «الشرق الاوسط».

الخلاصة: السعودية الآن ليست كما كانت قبل 20 او حتى 10 سنوات، انها تمور بالاحداث، هناك حركة ملحوظة في كل مكان.

القاعدة، ورغم قساوة وصرامة المواجهة الأمنية معها، ورغم خسائرها الفادحة، الا انها قادرة على احداث مفاجآت من حين لآخر، كما اثبتت عملية القنصلية الامريكية.. هذا شيء، والشيء الآخر، هو أن هناك حركة اخرى لا يمكن ان تخطئها العين في مجالات مختلفة تتصل بالتطوير والتغيير الإداري والاقتصادي، صحيح أن هناك إحساسا يقول انها ابطأ من المطلوب، ولكنها حركة بكل الاحوال، وحركة مفيدة، وفي الحركة بركة كما يقال.

والصديق هو من صدق الكلام لا من زيف الوقائع، لذا فمن المهم أن نسأل هنا عن وتيرة وخطة الحركة لعام 2005 في الداخل، ليس هناك شك في صدق النية، ووجود الارادة، ولا في صواب الخطوة أو الخطوات التي اتخذت، بل في شيء دون ذلك، ولكنه مهم، وهو عامل الزمن، فليس أحلى من مجيء الماء في لحظة الظمأ، لا قبلها ولا بعد أن يتلف الظمأ الاحساس بطعم الماء.

ليس من ريب أن المملكة العربية السعودية تملك قوة لا تضاهى على مستوى الاقتصاد والمكانة والتأثير المعنوي... وهذا رأس مال ضخم لم يتحقق لأي بلد عربي آخر على الاطلاق، هذه حقيقة ناصعة حتى وان ازعجت البعض، ولذا فإن حجم الامال هو بحجم هذه الاشياء كلها.

عام يمضي إذن بكل صخبه وتحولاته ومراراته، وعام يوشك على الشروق، ولكن السؤال: هل سيكون تكرارا لشقيقه الراحل، أم تصل تحولاته الى درجة النضج ونصبح إزاء مفرق تاريخي، من يدري ..؟