لغة «التواير»

TT

أرني كيف تحتفل.. أقل لك من أنت...

والقطريون لهم في احتفالاتهم أساليب تدهش الزائر وتفتح أبواب الأسئلة. وأهم ألف مرة من أعياد رأس السنة، هي الفرحة بالفوز بكأس الخليج 17 لكرة القدم، لذا كان الابتهاج في الدوحة نهاية الأسبوع الماضي على أشده، والشبيبة منتشية بنصر لا يأتي على طبق من ذهب، وإنما بالكد والعمل. والمثير في كل تظاهرات البهجة التي شهدناها هو كون السيارة هي البطلة، والعنصر الأساس الذي بدونه يصعب التعبير. المسيرات الحاشدة لم تكن على الأرجل، وإنما بالسيارات، حيث يعرف سائقوها كيف ينظمون الصفوف ويتهادون بهدوء. الرقص والغناء هو داخل السيارة أو إخراجاً للجسد المتمايل من شبّاكها أو من سقفها، حيث الفتحات العلوية للسيارات استخدمت لرفع الأعلام، او التلويح بالأيدي، أو رفع علامة النصر وتبادل التهاني. كل يلتصق بسيارته وكأنها امتداد له او جزء من كيانه الذاتي. ومن كان يبلغ الحماس في نفسه مبلغه، يفتح بابه ويترجل ليرقص بضع خطوات، ويعود إلى كرسيه ويكمل المسيرة التي استبدلت الأرجل بالدواليب المطاطية، أو «التواير» كما يسميها الخليجيون. لا بد أن مشاهداً محايداً يتساءل وقد تلبّسه العجب: لماذا لا يترجل هؤلاء الشباب ويتجمهرون في مكان او أمكنة بعينها، يمارسون مع بعضهم البعض حقهم في العيد الجماعي، من دون أن تبقى السيارة تأسرهم، وتكبح تواصلهم الإنساني المباشر. فالطقس كان رائعاً على الكورنيش حيث التجمّع الأكبر، لولا بعض الأمطار التي تساقطت في وقت متأخر من اليوم الثاني للاحتفالات.

لكن الإجابة لا تتأخر على الحاضر الذي سرعان ما يتأكد ان التعبير في قطر، وربما في دول خليجية أخرى، باتت له لغة غير الكلام والرقص أو الغناء، فهناك التعبير بالسياقة وبعرض القدرات والمهارات في السيطرة على هذه الآلة التي خلبت العقول والقلوب. والحق يقال، اننا رأينا في هذا اليوم ما لم نكن قد شهدنا من قبل، فالسائقون المحتفلون، الذين تذهلك، رغم اندفاعتهم وحماستهم، رفعة سلوكهم وتهذيبهم، يعرفون حدودهم والاستعراضات التي يحق لهم ممارستها. وضمن هذه الحدود التي باتت معروفة بحكم الأعراف يمارس كل منهم ما يشبه العرض الشخصي. لوهلة تتخيل هؤلاء الرجال وكأنهم يستبدلون الحصان القديم بالسيارة، وبدل رقصة الحصان، ثمة ممارسة مشابهة مع هذه الآلة المستوردة. فهذا يعرف كيف يجعل إطاراته تحتك بالأرض وتبلغ ما يشبه درجة الاشتعال، من دون ان تتحرك سيارته قيد أنملة، ثم تشتم رائحة احتراق المطاط من دون ان يلتهب، ويعلو الدخان ليغطي المكان ويزكم الأنوف. ها هو آخر يعبّر عن فرحه بأن يجعل سيارته ترتفع عن الأرض من إحدى جنبيها لنراها تقف على عجلتين اثنتين وكأننا في سيرك. آخرون يدورون بسياراتهم كما يفعل الخذروف، أو يزحلقونها وكأنها تتزلج على الجليد. أحدهم خطف الأبصار وتفوّق على منافسيه، لأنه استعان بتقنية تسمح له بقذف النار بشكل متواصل من فتحة (العادم)، فإذا بالمحتفلين يتسابقون ليلتقطوا الصور بتلفوناتهم الجوّالة للسيارة النجمة. ثمة أيضاً من أحب أن يرينا كيف بمقدوره أن يرقص واقفاً على باب السيارة، وهو يقودها في وقت واحد، والأعين تبرق إعجاباً بإنجازه.

في لبنان ثمة من يقود السيارة، كمن يروض دابّة. نكاد نجزم أن هناك من لا يصدّق بأن المحرك له قوة ذاتية تعفي الإنسان من الجهد العضلي، الذي كان يستخدمه ليمتطي الأنعام. هؤلاء لا تعرف لماذا يتعبون أنفسهم، وتركبهم العصبية ويشدّهم التوتر، حيث لا مبرر للانفعال الذي لا ينتج عنه سوى السرعة ثم كبح الفرامل وتوزيع الشتائم. لم يكن من لعنات وملاسنات بسبب السيارات في قطر، كتلك المقززة التي ترافق السائقين اللبنانيين حين يداهمهم الزحام.

تزيد دهشتك من تلك العلاقة الاستثنائية بالسيارة، حين تذهب إلى الصحراء، وترى بأم العين كيف أن المواطنين يجدون متعة لا تضاهى بتسلق الكثبان الرملية بالسيارات، وهذه أصبحت متعا خليجية معروفة، فسبحان من عوضنا عن مركبة الصحراء بـ«الفور ويل»، فهذا تغيّر لعمري ليس بالقليل.

ولا نكتب احتجاجا أو اعتراضا على الأساليب الاحتفالية القطرية أو الخليجية، ونعرف ما هو أسوأ منها وأدهى، ففي لبنان يستخدم السلاح والرصاص الحي في مناسبات عديدة، للتعبير عن الفرح، وكأنما ثمة خلط لا يغتفر بين الألعاب النارية والأسلحة الحربية. وما يجدر التفكير به أمام الطقوس الاحتفالية من لبنانية وقطرية، وتلك التي نراها في الدول الصناعية، هو الفرق الشاسع في السلوك بين مجتمع تنزل عليه السلعة من فوق، وآخر تخرج السلع من بنات أفكاره ومن صميم خياله. فلا يمكن تخيّل مسيرة سيارات استعراضية بهلوانية على الطريقة القطرية في قلب بارس عاصمة «رينو» و«بيجو» و«سيتروان»، علماً بأن عندهم من السيارات المهيأة للاتلاف الكثير. كما أنهم لو أرادوا استخدام رصاص الأسلحة عوضاً عن الزغاريد، لكن الأمر بالنسبة لهم أكثر من يسير وهم مصنعون ومصدّرون ومخترعون بالدرجة الأولى.

شيء ما في تلك الاحتفالية القطرية ـ القائمة أولاً وأخيراً على استعراض المهارة في السيطرة على السيارة وتليين شكيمتها ـ يذكّر بمهرجان فينيسيا التنكري السنوي الشهير، الذي يلبس خلاله كل قناعاً ليعيش حريته على مداها. فالمحتفلون أخفوا وجوههم بالغترات البيضاء، حتى لا ترى غير عيونهم وهم يرقصون ويقفزون ويلوحون للذين اصطفوا على جنبات الطريق، والبعض استعان بالأقنعة ليخفي ملامحه بالكامل. لا بد أن المتفرج الجديد على هكذا مشهد يتساءل: لماذا وقعت اختيارات الغالبية على وجوه الهياكل العظمية التي تعيد الجميع إلى أصل واحد؟ وما سرّ هذه العلاقة الجنونية بالسيارة؟ ثم أوليست مظاهر هذا الاحتفال بـ«خليجي 17» ذي الطابع الخاص جدا، يحمل لنا إشارات حول ما يمكن أن يكون عليه الخليج عام 2005 .

[email protected]