حين يصبح المفجر الانتحاري رقما لا يمكن تجاهله..!

TT

لا بد أن كريس كرينغل وجورج دبليو بوش، وهما الحائزان على لقب الشخص المعاد انتخابه للعام الحالي من جانب «تايم«، أن يتقاسما الأضواء في موسم العطلة الحالية، لجهة تأمل جديد في شخصية شبحية، ولكنها تكرس جهدها وأهدافها نحو تغيير أزمنتنا: وأعني هنا شخصية المفجر الانتحاري.

فقد ظل القتلة التواقون، أوالمستعدون للموت، تعبيرا عن عنفهم التدميري، موجودين في مخيلتنا وواقعنا على الدوام، وهم الذين حققوا ذرى جديدة من الرعب بقوة المتفجرات، وحماسهم لتدمير ما يبدعه الآخرون أو ما يحاولون حمايته من أبداع أو أهداف.

فـ«المفجر الانتحاري» أصبح الآن هو السلاح الفعال للحملات الهادفة الى اخراج الأميركيين من الشرق الأوسط، ومنع العراقيين من اجراء الانتخابات، والانتقام من الاسرائيليين والاستراليين والهنود من بين آخرين. ومن ثم أصبح السلاح البشري هو السلاح الفتاك، الذي لا نفهم الكثير عنه، ونحمي أنفسنا منه بصورة غير كافية.

فهل كان مفجر الموصل، الذي أودى بحياة العشرات من الأميركيين والعراقيين في مطعم للجيش الأميركي يوم الثلاثاء، مدفوعا بالتعصب الديني أو الحسابات السياسية أو الاستغلال الخارجي؟ في الإجابة، لنا أن نعترف بأننا لا نعرف الكثير في المرحلة الحالية سوى الحقائق المأساوية للضحايا. وليس ذلك فحسب، بل إننا وحتى بعد العمل المضني للجنة الحادي عشر من سبتمبر، ما نزال نمارس التخمين فقط، من الناحية الجوهرية، بشأن القوى التي جعلت محمد عطا وأقرانه المتآمرين معه، يهللون لفرصة فقدانهم حياتهم من أجل أن يموت الأميركيون معهم في ذلك اليوم الكئيب.

فقد أدى استعدادهم للانتحار، بتحويل الطائرات التي كانوا على متنها الى قنابل محلقة، الى انهيار الدفاعات الأميركية، ودشن عهدا جديدا من وجود جديد للمفجر الانتحاري في القضايا الدولية، فيما غير من صورة العالم ذلك الافتتان منهم بالموت بتلك الشاكلة، وبصورة تبدو أكثر وأكبر من موهبة اسامة بن لادن التنظيمية المزعومة.

وقد يكون هناك الكثير من التفسيرات للقتل الانتحاري ما دام هناك قتلة يمارسون ذلك. ومن السهل التقليل من أهمية الرشوة والاكراه المادي، باعتبارهما وسائل تجنيد في الشرق الأوسط، ولكن صورة تقديمهما لمفردة «سفاك الدماء» الى العالم تظل باقية.

فمن الناحية السايكولوجية، فإن الأشخاص المستعدين للموت، لتحصيل الغنى أو حماية عوائلهم من التهديد بالأذى، معروفون وسط المجندين الذين اعتقلوا أو استسلموا. فبعد «العراب» لماريو بوزو وسترنغر بيل في «السلك»، فإن الاستعداد لأعمال القتل الجماعي هذه، تفسر أن الأمر ليس شخصيا، بل هو مهنة، ولكنها أيضا تتخذ شكل سياق ثقافي وديني، يضع التفجير الانتحاري على طيف يتحرك من شيء مقبول الى شيء مرغوب فيه تماما. ويجب على الأميركيين أن يفهموا ويتخذوا موقف الدفاع، ازاء شكل من اشكال الحرب، فيما هي في الوقت نفسه، صورة فسيفسائية يجمع بين التكتيك والاستراتيجية والشكل والجوهر والمنهج والجنون.

ويمكن هنا اعتبار تقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر مفيدا كنقطة انطلاق. فهو يحذر على نحو مناسب من توجيه اللوم الى أديان العالم الكبرى في المذابح التي ارتكبها قلة من أتباع هذه الديانات. ولكن اللجنة تواصل الاشارة الى أن الولايات المتحدة تواجه تهديدا جليا من «الارهاب الاسلاموي» و(ليس الاسلامي) الذي «يشكل الدين دافعه، ولكنه لا يميز بين السياسة والدين، وبالتالي يشوه الاثنين».

وذلك وصف وجيز ولكنه يدخل في لب مسألة الموت مقابل الحياة. لقد انغلقت الدول الاسلامية منذ زمن طويل في فترة عاشت فيها الانحدار، حسب أوصاف اللجنة، لتصبح «مجتمعات سريعة الاشتعال» مبتلية بـ «المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية» التي تضعف الابداع والتسامح وتكافؤ الفرص.

لقد دمر عطا، المهندس المصري الذي درس في ألمانيا، ناطحات السحاب، التي لم يكن له أبدا أن يشيدها. ويمكن للنزعة البنلادنية أن تدمر السياسة، وبشكل خاص الخيار الديمقراطي، ولكن، وعلى هذا المستوى على الأقل، لم تكن هناك فروق بين بن لادن وصدام حسين والدكتاتوريين الآخرين.

والى ذلك فقد يجد أولئك الانتحاريون معنى في الموت لا يجدونه في الحياة، سواء في مجتمعاتهم العاجزة أو ظروف الغرب الأكثر ديناميكية، فيما يمكنهم أن يزيلوا الخط الفاصل بين الدين والسياسة، وهو خط يتغير على الدوام في المجتمعات المنفتحة، ليعكس الشروط الأخلاقية والمادية المتغيرة، وهم إنما يفعلون ذلك لكي لا يضطروا الى مواجهة الخيار وعواقبه.

وتتجلى ضراوة الحياة «التي لا مخرج منها» في تلك «المجتمعات السريعة الاشتعال» تتجلى أيضا في مدح الموت المرعب الذي يعرض على الفضائيات العربية. فمحطة مثل «الجزيرة» تستغل تعري المرضى واليائسين، كما تستغل مؤسسة أتش.بي.أو، تعري الجنس في المقابلات مع العاهرات. ومن هنا يصبح المزيد من الدروع البشرية ودروع العربات، والمراقبة الأفضل، ونقاط السيطرة المحكمة بصورة اكبر على الحدود، ومنع الدعم المالي للارهاب، تصبح جميعها هي الخطوات الضرورية العاجلة للدفاع ضد القنابل البشرية في أميركا وفي العراق.

ولكن وعلى المدى البعيد، لا يمكن أن يتحقق النجاح، الا عبر كسب ومساعدة المسلمين المعتدلين في تحويل مجتمعاتهم من مجتمعات حاضنة لثقافة الموت، الى أماكن أخرى تغرس الرغبة المفعمة في الحياة.

* خدمة مجموعة كتاب «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)