بشَّار وأردوغان: التصحيح المتبادَل اقتباساً

TT

في الوقت الذي كان «الصديق الاميركي اللدود» الرئيس جورج بوش الابن، يعقد يوم الاثنين 20 ديسمبر (كانون الاول) الحالي في واشنطن مؤتمراً صحافياً، يتضمن في سياق الهجمة التي تستهدف اخضاع الحكم السوري، التلويح باتخاذ اجراءات اقتصادية، لها فِعْل الاجراءات الدبلوماسية، ومن بينها تجميد اموال، فيما أكثرت واشنطن من الحديث حول خيارات عسكرية ضد سورية، «لمنعها من ارسال اموال او من تقديم اي شكل من اشكال الدعم الى المتمردين في العراق عن طريق أتباع لصدام حسين يقيمون في سورية»، وكان الملك عبد الله الثاني يواصل التنبيه، وفي كل الاتجاهات من مسألة «الهلال الشيعي»، ويشاركه قلقه من هذا الأمر الرئيس حسني مبارك الذي لم يُخف الخشية من اندثار «عروبة العراق»... في هذا الوقت كان النجم الساطع في سماء العالم الاسلامي رجب طيب أردوغان، على اهبة القيام بزيارة رسمية الى سورية، رافقتها بعض المصادفات الملحوظة من بينها انها تأتي قبل ايام من انتهاء العام 2004، الذي كانت بداياته شهدت زيارة بالأهمية نفسها قام بها الرئيس بشَّار الأسد الى تركيا. كما انها تأتي وقد حدثت النقلة التاريخية لتركيا وفي زمن قياسي، حيث باتت في ضوء تصويت برلمان الاتحاد الاوروبي يوم الاربعاء 15 ديسمر الحالي بغالبية 407 اصوات مقابل اعتراض 262 وامتناع 29 عن التصويت، على بدء مفاوضات انضمام تركيا الى الاتحاد، اوروبية الهوى من دون ان تفقد الجذور الاسلامية. والى ذلك فتزامُن الزيارة مع التطورات الراهنة يعطيها بُعداً بالغ الأهمية، وبحيث ان رجل تركيا الاسلامية ـ الاوروبية القوي، قد يصبح الوسيط الفاعل بين الحكم البشَّاري وكل من الادارة البوشية والحكم الشيراكي المنقلب على سورية من اجل لبنان. كذلك يُحتمل ان يطرح نفسه كوسيط من نوع يحظى بالمصداقية والفعالية في الوقت نفسه بين ذاك الحكم وبين اسرائيل، خصوصاً بعدما حدثت خطوات وصدرت ايماءات من جانب الرئيس بشَّار تشجع على تقريب ما كان صعباً تقريبه من وجهات نظر، وتعديل ما كان من المستحيل تعديله من ثوابت. فالرئيس بشَّار أبدى استعداداً للتفاوض ومن دون شروط من اجل تسوية النزاع السوري ـ الاسرائيلي، كما انه طوى مسألة التوتر التي طالت وتركت ندوباً كثيرة على وجه العلاقات السورية ـ الفلسطينية، وابدى كل الاستعداد لاضفاء بعض الدفء على العلاقة مع اميركا، وكل المرونة من اجل التوصل الى انهاء الاشكال المتعلق بالعلاقة مع لبنان، ولم يبق بعد ابداء حُسن النوايا سوى ترجمتها الى خطوات.

ومن الجائز الافتراض ان ما فعلته تركيا الأردوغانية وجد الكثير من التأمل لدى الرئيس بشَّار، حيث ان كلاً منهما تسلَّم الحكم في زمنين متقاربين، الاَّ ان ايقاع حركة الحسم لدى «حزب العدالة والتنمية» الذي تسلَّم الحكم عام 2002، بعد فوز مبهر في الانتخابات كان اكثر حيوية. كما ان كلاً منهما وصل الى الحكم من خلال التوريث وان اختلفت الصيغة والوسائل بعض الشيء. فالرئيس بشَّار ورث حكماً حزبياً كان والده رئيسه، وكانت المؤسسة العسكرية النظامية والأمنية عماده. ورجب طيب أردوغان جاء الى الحكم على خلفية حزب اسلامي سبق ان وصل الى الحكم بزعامة نجم الدين أربكان، لكن اصرار الرجل على التمسك بحرفية الثوابت وعدم مراعاة المعادلة الأتاتوركية ـ العسكرية، بمعنى اعتبار ارث اتاتورك امراً غير خاضع للطمس في الخطاب الاسلامي، وبمعنى اعتبار دور الجنرالات غير خاضع للالغاء بالشعبية الاسلامية المتدفقة، وبما يشبه التدفق الايراني وراء ثورة الخميني و«آيات الله» الوارثين له، وبمعنى اعتبار العلاقة المبنية على اسس استراتيجية مع كل من اميركا واسرائيل ثابتة ولا ضرورة لاستبدالها باستراتيجية معدَّلة في الاتجاه العكسي، على نحو ما حاول أربكان ان يفعله من خلال انفتاح حماسي على العراق وليبيا وسورية وايران، التي هي زمنذاك «قلاع المواجهة والرفض» مع اميركا واسرائيل ... ان هذه الاصرارات من جانب أربكان الى جانب امور تتعلق بالحجاب والتقاليد وتقليص العلمانية والتشدد في النظرة الى الأجانب تسببت في اسقاط سريع للتجربة الاسلامية الاولى عام 1997 والتي جاء أردوغان، وعلى انقاض مرحلة انتقالية تولاها مسعود يلماظ، ثم بولند اجاويد يرثها عام 2002، وبعد ادخال تعديلات جذرية على النهج والسلوك والتعامل مع الآخرين، وضمن مواءمات لا تُظهر الأردوغانية وكأنما هي «حركة مرتدة» وانما هي «حركة تصحيح» بمثل «حركة التصحيح» التي تولاها في سورية الرئيس حافظ الأسد وحكم على اساسها ربع قرن. وهي حركة تأثر بها بعض الجيران ومنهم أردوغان الذي استطاع من خلالها تحقيق النقلة التاريخية لتركيا، من دولة حائرة خائرة الى دولة اوروبية الهوى ذات اصول اسلامية.

وبالعودة الى ما أشرنا اليه في شأن التأمل نقول افتراضاً ان الرئيس بشَّار يمعن تأمُّلاً في النهج الأردوغاني وقد يكون على أُهبة التأثر به ومن دون ان يكون ذلك بصيغة الاستنساخ، وانما حالة اقتباس على نحو ما فعل أردوغان، الذي لا بد اقتبس من الأسد الأب ما جعله يحكم آمناً وطويلاً.

جاءت زيارة أردوغان لسورية في الوقت العصيب، وفي مرحلة يواجه فيها التوجه البشَّاري الخيار الأصعب. ولا بد أن الرئيس بشَّار عندما لاحظ كيف ان كل التناقضات التركية من الحالة الكردية العالقة.. الى الحالة الاسلامية المتقاطعة مع الحالة العلمانية ذات الجذور الراسخة.. الى العلاقة مع اسرائيل.. الى الموقف من العراق والحذر من ايران والترقب مع روسيا.. الى المسألة الديمقراطية.. الى تعاظُم شأن المؤسسة العسكرية على حساب المؤسسات الدستورية.. الى تقنين اسواق العمالة التركية في البلاد الاوروبية، يمكن ان تتلاشى في خضم الانتماء الاوروبي، وبحيث يكون لكل حالة عالقة علاج ولكل مسألة مستعصية دواء، فان الرئيس بشَّار أوحى لزائره ان عهداً جديداً من العلاقة يمكن ان يبدأ على قاعدة التصحيح المتبادَل، بصيغة الاقتباس وبالذات عقدة لواء الاسكندرون السليب الذي اذا كان استحال على سورية استعادته من قبل، فكيف سيستعاد بعدما بات جزءاً من ارض اوروبية. خلال الزيارة طغت الاهتمامات الاقتصادية والوعد برفع قيمة الاستثمارات التركية في سورية وعقد الاتفاقات السياحية على الهموم السياسية، باستثناء التفاهم على الموضوعين العراقي والفلسطيني، وأبرم الجانبان اتفاقية للتجارة الحربة واتفاقات على مشاريع تنموية قرب لواء اسكندرون، وعلى نهري العاصي ودجلة، وباتت سورية جغرافياً متكئة على كتف اوروبي اهميته انه مسلم وانه صحَّح نفسه بنفسه.. وهو تصحيح قد يتحول الى امثولة يحتذى بها بين بلدين جارين، كادا يدخلان في حرب طاحنة عام 1998 بسبب استضافة سورية للزعيم الكردي عبد الله اوجلان، ثم هل الوفاق بترحيل اوجلان الذي انتهى في القبضة التركية سجيناً حتى الآن. ولا بد ان الرئيس بشَّار يأخذ في الاعتبار أنه لو أن أردوغان لم يصحح ويعتمد النهج الاسلامي المرن خلاف النهج الأربكاني لما كان وصل، وأنه لو لم يواصل الخطوات بعد خطوة التصحيح الاساسية لما كان سيَسْلَم، ولكانت تركيا ستستمر على ما كانت عليه حائرة خائرة، وأنه لولا ارتضاء التسليم بسيادة قبرص لما كان ارتضى الاوروبيون انتسابه اليهم.

وتبقى الاشارة الى ان ميزة الصبر والدبلوماسية الهادئة والنأي عن الانفعال التي جعلت المتحفظين الاوروبيين على انتساب تركيا الى ناديهم يتقبلون تطعيم مجتمعهم المسيحي ببضعة ملايين مسلم تركي، كفيلة باقناع الادارة البوشية والشريك الاوروبي شيراك والحليف الاضطراري اسرائيل، بأن العهد البشَّاري لحظة مهمة في الحياة السياسية السورية، ومن المصلحة التقاطها والاستفادة منها وتوظيفها في الاتجاه الايجابي، وليس مواصلة التحرش بها واستفزازها. بل قد نكتشف ان أردوغان اوفد وزير خارجيته عبد الله غول الى اسرائيل لهذا الغرض، على ان يتولى هو الباقي لدى الرئيسين بوش وشيراك.

وبعد الآن تبدو متابعة العلاقة البشَّارية ـ الأردوغانية أمراً في غاية الأهمية، وبالذات ما يتعلق بالمقايضة التي يقال انها موضع أخذ ورد.. اي بما معناه تتسامح سورية في احقية لواء الاسكندرون بديلاً معنوياً لتركيا عن تخليها عن احقيتها بقبرص، وتتعهد سورية بعدم البقاء في لبنان بديلاً اضطرارياً للتحرش السياسي والاقتصادي وربما العسكري الاميركي ـ الاسرائيلي بها، مع وعد بترتيبات على الارض في ما يتعلق بالجولان وطبريا تحدث عند التوصل الى تسوية ما فلسطينية ـ اسرائيلية. ونقول ان المتابعة أمر في غاية الأهمية لأنها مؤشر الى حالة غير مسبوقة في التعاطي مع القضايا العالقة وموجبات اقتحامها في الوقت المناسب... لأنه وقت المخاطر.