صعود «الاعتدال» الإسلامي

TT

إن بعض من يمارسون فكر الاعتدال بالرواية أو الدراية، يأخذونه على أنه نتائج جاهزة ومسلّمة، وربما طافوا يبحثون وينتظرون «ميزان اعتدال» جديد وعصري، لفرز الخلائق إلى فسطاطين، وتمييزهم بناءً على ذلك ومحاكمتهم إليه.

مع أن الاعتدال يُفترض فيه أن يكون طرائق تفكير مختلفة، وإن جمعتها قواسم مشتركة، فهي محاولات تفكيرية تنأى عن القوالب الجامدة، وتتحاشى الدخول في جدل تاريخي تم استدعاؤه، أو صراع حركي، أو سباق تسلحٍ بالاتهام والتعيير تجاه المختلف، ومزاولة تبخيس الآخر.

وأنْ توسِع الغرب والشرق شتماً وهم يوْدون بالإبل، لا يصنع إلا مشهداً مأساوياً يُبـْقي الناس في مراسم بكاء سوداء، لا تقتل صيداً ولا تنكأ عدوّا، لذا كان من أهم سمات الاعتدال الصاعد في التيار الإسلامي، هو الاستعاضة عن إدانة الآخرين بالنقد الذاتي ومشاركات الترشيد، في الانتقال من المراهقة إلى الرشد، لتجاوز الاشتغال بمشاريع (الجرح) في الغير، والغفلة عن (التعديل) في الذات، فحياتنا الثقافية تحتاج لكثير من العمليات التي تفهم قوانين الأرض، في ضوء السنن الجارية لا السنن الخارقة، وتعيد النظر في علاقاتها مع الخريطة الفكرية، لمعرفةٍ تاريخية نقدية معتدلة بنقاط المرض والاختناق, وفتوحات النجاح والانفتاح.

والتيار الإسلامي ليس تنظيماً سريّاً، يخشى من فتح ملفاته ومعالجتها، وليس خافياً في هذه الملفات اختلافات تياراته والفروقات المهمة داخله، بين الانفتاح والانغلاق، أو المحافظة والإصلاح، كما هو سمة أي تيار آخر، والذي ينبغي أن يقال هنا: أن الشرنقة على الذات والانكباب عليها وحدها تجاه الآخر الثقافي والسياسي والاقتصادي، عند بعض الإسلاميين، هو نوع أصرخ وضوحاً في الاعتراف بفوقـيّة الآخر، من ذلك الذي يعترف بها بشكل مباشر.

وتحتـّم هذه الفرضية النظر في السلوك الإسلامي مرتين، في العلاقة بين (الأنا) و(الغير)، وهذا ما صعدت ممارسته في الداخل الإسلامي بعد تجارب كثيرة وخبرات متنوعة، فظهرت فيه نواح ٍ تعيده إلى وهج الحياة بشريـّاً ـ هذه المرة ـ من دون ادّعاءٍ لامتلاك التفسير التلمودي الوحيد للدين الإسلامي، الذي احتوى على طول تاريخه مجموعات من الثقافات والحضارات والأعراق والطوائف والشعوب واللغات، مع حسبان ذلك كله نتاجاً بشريا محضا، يختلف تماماً عن النصوص الدينية الواضحة.

إن اعتقاد بشرية الممارسات الإسلامية، مقدمة منهجية مهمة لإجراء قلم التصحيح والتغيير، الذي تحتاجه الممارسات نفسها قبل أي شيءٍ آخر، وإن كل تصحيح يطرأ على ذلك، فهو برهان حداثتها وصلاحيتها للبقاء، وإن هذا التنقيح، وإنْ عدّه بعض المشتغلين بتوصيف الفكر الإسلامي الحديث عيباً، فإنه من أكبر مزاياه، في عزل الاستخدامات الطبيعية القابلة للخطأ والصواب عن القواعد الدينية المسلمة.

وفي مسائل الدنيا، بات ضرورياً تبني الاقتحام والدخول والمشاركة كمفردات مُـقـَدمة على نوازع الإحجام والترقب والتوجس، واعتماد الاندماج مع قنوات الحياة المشرعة التي يحكمها منطق المفتوح والجائز، لا منطق المحظور والمحجوب.

فإذا تبين الرشد من الغي، لم نعد نحتاج لتقصّي السؤال عن أحكام العادات، التي أصلها الحل لتفعيل المتاح في سبيل عبادة الله عز وجل، الذي يأمر بعمران الأرض وإحيائها، مما أنزل الله على عباده من ماء السماء: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها..) , ولأجل تشغيل الدنيا وتحويلها من تصورها في المخيال الإسلامي كمأزق وحسْب، إلى فرصة (مزرعة) لإنتاج العمل الصالح المفيد.

وللحوار والجدال بالتي هي أحسن، بعيداً عن الإكراه والعنف أو أي افتعال خصام مع أطراف الوجود، فإنّ فِعْلَ شيءٍ من ذلك تقليص لمساحة (الكتاب)، وتفعيل لدور(السيف) في المعادلة العربية القديمة التي أجراها أبو تمام:

السيف أصدق أنباءً من الكتبِ

في حده الحد بين الجد واللعبِ

إن مرحلة (بيض الصفائح) مع المجتمع والسلطة والناس والنفس، ولـّت إلى مرحلة (سود الصحائف)، وإلى دور الحوار والتسامح والنقد الهادئ، وإلى فكرة المزاحمة في سهم الدولة الوطنية الحديثة، بوصفها الأفق المشترك، ومحاولة توجيهها للأفضل، عِوضاً عن فكرة الدولة البديلة، فالطريقة الإسلامية والرأي السياسي الإسلامي، ليس برنامجاً سياسياً محدداً مرسوم الملامح الدقيقة والتفاصيل، بل هو استفادة من كل رأي سياسي ناضج وحديث، مع بقاء السمة البشرية عليه، من دون منازعة عقيمة، حتى لا نضع «جند الله في المعركة الغلط»!

[email protected]