عام فلسطين وعام القضية الفلسطينية!!

TT

كما في نهاية وبداية كل عام ستمتلئ الصحف وستطفح شاشات الفضائيات بأمواج من «جردات» الحساب عن أحداث العام الذي يقف العالم الآن على بعد بضع خطوات من نهاياته، والعام المقبل الذي سيحل ضيفاً على الكرة الأرضية بما فيها من حيوان ونبات وجماد بعد أيام عدة.

وبالتأكيد، وكما في كل عام، سيبكي البعض بدموع حارة على الماضي الراحل وعلى الأحبة الذين غادروا بلا عودة وعلى المُلْك الذي لم يحافظوا عليه مثل الرجال، وبالمقدار ذاته فإن كثيرين سيتأوهون وهم يستشرفون آفاق العام المقبل الذي رغم كل التنبؤات والاستنتاجات سيبقى صفحة مطوية وسيفاجأ أهل هذا الكون بما لم يتوقعوه ولم يرد في حسبانهم.

عيد بأية حال عُدتَّ يا عيدُ

بما مضى أم لأمر فيه تجديد

هناك الكثير من المحطات التي من الممكن ان يتوقف فيها العائد لأحداث العام الماضي، فهناك الزلازل التاريخية الرهيبة التي ضربت اندونيسيا وبعض الدول المجاورة التي حرصت السنة «الفارطة» ان تودع بها تلك المنطقة قبل رحيلها، وهناك رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي كان أحد رموز القرن العشرين، وهناك حلقات العراق النارية المتلاحقة، ثم هناك اعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاية جديدة، وهناك أبشع عمليات الارهاب في إسبانيا وحصول حفيدة الرئيس الكوبي فيدل كاسترو على الجنسية الأميركية.

إنها سنة بإمكان كل من يريد الكتابة عنها ان يمد يده في أي اتجاه ليلتقط قصة طريفة أو حادثة مأساوية او انجازاً علمياً وطبياً غير مسبوق او قفزة اقتصادية غير متوقعة او انهياراً غير مسبوق العواقب. ولعل من أهم ما يمكن التوقف عنده ونحن نودع هذا العام، غير مأسوف على شبابه، هو المجازر الجماعية التي حصدت أرواح الألوف من بني البشر ووصول أسعار النفط إلى أرقام فلكية لم تكن متوقعة ولا منتظرة.

باستطاعتنا ان نجد بصمات لهذا العام الراحل في أي دولة عربية وإسلامية وبالإمكان الكتابة عن أحداث العراق الى ان يصيح الديك ليعلن نهاية سنة مضت بحلوها ومرها وبخيرها وبداية سنة لا تزال أحداثها في عالم الغيب وفي صدور الرجال الذين يقودون الدول الفاعلة والمؤثرة والرجال الذين يوجهون زمر الارهاب والموت من كهوفهم وسراديبهم المعتمة.

إن هناك من سيجد في العراق الراعف النازف الذي تذبحه الفتنة باسم المقاومة والاسلام من الوريد إلى الوريد، ولكن ورغم اهمية هذا البلد العربي وخطورة ما يجري فيه فإن الاولوية تبقى للقضية الفلسطينية التي هي لُبُّ وجوهر الصراع في هذه المنطقة والتي سيكون العام المقبل عامها رغم ان نهايات اول شهر من هذا العام ستشهد الانتخابات العراقية التي ستكون سلباً وإيجاباً النقطة الفاصلة بين مرحلتين وبين توجهين.

لقد كان رحيل ياسر عرفات، الذي أعطى القضية الفلسطينية صورته وألوان كوفيته، حدثاً تاريخياً بكل معنى الكلمة وستبقى الأجيال المقبلة الفلسطينية أولاً والعربية ثانياً تعتبر هذا العام الراحل الذي بات في الساعات الأخيرة من عمره عام «ابو عمار»، ففيه خرج من فلسطين، أو ما تبقى من فلسطين، وهو يرفع يده بعلامة النصر ولكنه عاد إليها وهو محمول على أكتاف رفاقه الذين رافقوه لنحو أربعين عاماً والذين ماشوه في هجرات كثيرة وتنقلوا معه عبر العواصم العربية وغير العربية، القريبة والبعيدة.

لن يشارك عرفات، مع إطلالة العام الجديد، رفاقه أعياد الثورة، ثورة المسيرة العسيرة، التي انطلقت قبل أربعين عاماً في الفاتح من يناير (كانون الثاني) عام 1965 لكنه من مرقده المؤقت، الذي لا تزال هنالك هجرة بانتظاره إلى القدس، سيراقب لحظة الوداع بين عام مضى ولن يعود مثله مثل الاعوام السابقة وبين عام مقبل وآت بخيره وشره وبأيامه الحلوة والمرة وبأحداثه المتوقعة وغير المتوقعة وبتطوراته السلبية والإيجابية.

رغم ما عاناه عرفات في زنزانته الانفرادية التي هي بحجم قبره الواسع الرحب في ساحة مبنى «المقاطعة» فإنه لم ييأس ولم يفقد الأمل وبقي يتحدث عن القدس، القريبة البعيدة، وكأنها في قبضته. وواصل يزف البشرى لشعبه بأن الدولة المستقلة قريبة وأن انبلاج الفجر لن يتأخر وأن نهاية المعاناة غدت بحاجة إلى صبر اللحظات الأخيرة.

والآن ورفاق عرفات، وأولهم وأكبرهم، محمود عباس «أبو مازن» يودعون عاماً يرحل ويستقبلون عاماً جديداً بدونه فإن الفرصة التي اصبحت بمتناولهم لم تكن متوفرة للرجل الذي بقي يطاردها لأكثر من اربعين عاما وكان كلما ظن انه امسك بها تهرب من بين يديه، وإنها فرصة إما ان يكون الأداء بمستوى الإمساك بها وعدم إضاعتها وإلا فإن القضية الفلسطينية ستبقى عالقة في عنق الزجاجة وستبقى الأمور تسير من السيئ إلى الأسوأ.

إن أسوأ ما يمكن ان يواجهه أبو مازن، الذي سيصبح في اليوم التاسع من عمر هذا العام الجديد رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية، أي رئيساً لفلسطين، هو ان يبقى أسير المعادلة التي أطبقت أضلاعها على ياسر عرفات. والمطلوب في هذه المرحلة المستجدة الجديدة ان يكون الرئيس الفلسطيني الجديد صلباً لا يُكسر وان يكون في الوقت ذاته ليناً لا يُعصر وان يتبع سياسة حازمة حتى لا تفلت الامور فتضيع هذه الفرصة السانحة عندما يكون الحزم ضرورياً ومطلوباً وان يتبع سياسة اللين والمهادنة، لكن الى الحد الذي لا يؤدي إلى الفوضى وضياع القرار والتضحية بالقضية.

لن يكون العام المقبل، وهو اول عام لأبي مازن في مواقع المسؤولية الأولى، سهلاً ولا مريحاً، لكنه عام واعد وحتى يصبح هذا العام على غير ما كان عليه العام الماضي الذي هو ثالث ثلاث سنوات عجاف موجعة ومربكة، بل وقاتلة، فإن عليه ان لا يبقى أسيراً للذين يدفعونه الى الخلف باسم «الثوابت التي لم يفرط بها عرفات» وان لا تبقى عيناه واحدة مسمرة في اتجاه الضريح المتحفز في ساحة مبنى المقاطعة في رام الله والأخرى تلاحق المعادلات المستجدة والمتجددة في هذه المنطقة وفي العالم بأسره.

إن ما يعرفه ابو مازن هو ان العام الجديد سيشهد انفتاح آفاق جديدة للقضية الفلسطينية، ففي بدايات العام المقبل سيبدأ الانسحاب الموعود من غزة وستلغى، ولأول مرة في تاريخ الاستيطان اليهودي في فلسطين، مستوطنات حقيقية وستوضع «خريطة الطريق» التي من المفترض ان تؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على بساط التنفيذ وستجرى الانتخابات التشريعية التي لا تقل اهمية عن الانتخابات الرئاسية التي من المقرر ان تجرى في التاسع من الشهر المقبل.

وأيضاً فإن ما يعرفه ابو مازن، الذي سيصبح رئيساً في مواقع المسؤولية الأولى بعد أيام، إن ما واجه الأميركيين في العراق خلال العام الذي بات يلفظ أنفاسه الاخيرة علمهم أن إهمال القضية الفلسطينية، التي هي أم القضايا، ثمنه مكلف وان ترك وضع الشرق الأوسط على هذه الحالة سيعزز النزعات الإرهابية وان حماية المصالح الأميركية في المنطقة تقتضي حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً بقدر ما يوفر الأمن للإسرائيليين يوفر للشعب الفلسطيني تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة على الاراضي التي احتلت في حرب يونيو (حزيران) عام 1967 ومن ضمنها القدس الشرقية.

وهذا يقتضي ان يتحرك أبو مازن بسرعة وان يتحرك معه الشعب الفلسطيني لوضع حد للانفلات الداخلي ولتوحيد القرار والأمن، فالعام الجديد عام حاسم واللحظة التاريخية لا يمكن تأجيلها الى عام مقبل والواضح ان هناك فرصة تاريخية لا بد من اغتنامها وهذا يتطلب لغة جديدة لمخاطبة الاميركيين والاسرائيليين والعالم وأسلوباً جديداً للتعامل مع الفلسطينيين، في الداخل وفي الخارج، ومع العرب والمنطقة.

حتى يمكن تجريد اليمين الإسرائيلي من كل أسلحته التي استخدمها على مدى الاعوام الثلاثة الماضية والتي لا يزال بإمكانه استخدامها لسنوات عدة مقبلة فإنه لا بد من اشعار الاسرائيليين بأن هناك إمكانية فعلية وحقيقية لتوفير الأمن لهم وان هناك إمكانية فعلية وحقيقية لتصبح العمليات الانتحارية من الماضي وأنه لن يكون هناك سلاح غير السلاح الرسمي الفلسطيني ولن تكون هناك أي سلطة موازية للسلطة الفلسطينية.