نهايات عام.. قراءة في كف السعادة..!

TT

لكل شمس مغيب، وبما أن تاريخ نشر المقال سيوافق التاسع والعشرين من الشهر الجاري، أي قبل استقبال السنة الميلادية الجديدة بيومين اثنين، فعقلت أن يكون حديثي في هذه الأجواء، فما ضرّنا أن نودّع عاما ونهلّل لغيره، إن كان ما فينا لا يزال «فينا»... كانت هذه النية التي لا أزعم أنها تغيّرت، وإنما هو حال من نواها، فالصباح الذي انثنى نحوي لأناله، وقف المزاج حائلاً عند الغروب فعاقه، فالعزم كان أن أذهب إلى محاضرتي فأحضر استماعها، ومن ثم أخلد إلى نفسي فأملي على الذاكرة ما تجود به القريحة، حتى إذا موّنتها بالتفكير والاستنتاج، تخيّرت من الأفكار ما أشاء وبدأت في صياغة المقال.

ومع هذا، فعلى ما يبدو أن الدكتور المحاضر كان مصمماً ألاّ يسمح لأمانيّ المتواضعة بالمرور..! فحين يقرر أن جميع أبحاث الطلاب قد أتت من دون المستوى، وعليهم إعادة صياغتها أثناء إجازة العيد، وقبل رصد العلامات، وحين يكون قد استغرقني بحث واحد من اثنين غيره، قرابة الشهر لأتم كتابته ومصادره، ثم أبلّغ أن فسحة عيدي التي أتحرى أيامها سأقضيها في المكتبة، بين دفع حجة وإقامة برهان، ويكون عليّ وأنا في هذه الحالة الشعورية أن أكتب عن قدوم عام وسلام أيام، فماذا سأحدّث الناس به ؟

إن قلت لكم «وقد أعيش إلى أن يجيء وقت أتشوق فيه، إلى هذا الزمن الذي أنا فيه، بأبحاثه التي تنتظر الكمال المزعوم، وعيده الذي سأكتفي منه باسمه»، فلست بتلك المنظّرة صاحبة البرج العاجي، التي قسّم الزمان قسمته، فأبقى لها الصفاء ولسواها الكدر، فأنا، لا أذكر من زماني إلاّ سعيي الدائم لنيل حقوقي، وكم نظرت إلى غيري، فوجدته وقد حصل بدعة على ما ارتحلت سفراً ونفساً لإدراكه، فما عناني من شأنه إلاّ أيامي المقبلة، وكيف أطوّعها لخدمة غرضي، فإن طلَبَت صبراً لم أبخل عليها، وإن زادت قسوة ملكتها إرادة، وإن حدث وانجلى الليل بطيب عيش، فإنه لا يستمر طويلاً، فيذهب كالحلم، ولا يُبقي لي سوى مؤونة ذكريات تقيني برد الشتاء.

وقد وجدت أن أكثر ما يعيب السعادة، ضحالة استيعابنا عند قراءة كتابها، ولربما يكون سر تميزها في فلسفتها، إنما تعلمت أن أسترق لحظاتها وقتما تأتي، كيفما تأتي، وهو علم وصل إليّ متأخراً بعض الشيء، ولكن المهم أنه وصل، فلم أعد منذ لقائه أفسد اللحظة، وأنا أدعو بطول أجلها، أو أناقش حالي حين انقضائها، أو أمسك بتلابيب المعجم أفسر كل كلمة يستعصي عليّ فهمها، فما هي إلاّ قصار الدقائق، إن جاوزتني فقدتها، وفقدت حظي حينها، فيكون من الحماقة أن أعيشها، ولا أدري أنني أعيشها، فإذا مرّت ونظرت خلفي تيقنت من وجهها الذي لم أتعرف عليه وهو أمامي، فما يدريني أن في الكتاب الذي سأمضي عطلتي معه أكمل بحثاً وأنشد درجة، من الحلاوة والاستمتاع ما لن يكون في غيره، مما أصر على حسنه.

لا تعاند قدرك، وتحايل عليه حتى تعيّيه، فهو إن اختلف معك وقاومته، فلن يقضي ليله ساهراً ينتظر استسلامك، بل والأرجح أن يكافئك على نضجك وثقتك بخالقك.

وإنّي لسألت عن سر سعادتي، فقلت حبي لنفسي.

نعم، إنه كما قرأتم، فقبل «اعرف نفسك» عليك أن تحبها أولاً، فإنك إن أحببتها صادقاً قربتها من الخير، وإن شابه العناء، ورحمتها من الألم، ومن مغبة العبث والفَوْت حتى لو فيه ما تشتهيه، فهي إن كانت غافلة عن مصلحتها، فحبك لها سيحميها من هذه الغفلة، ولا أرَ امرأ سقط، إلاّ وعلمت أنه لم يحسن احتواء هذا الحب، بل وحتى ذلك الحاقد أو العابس أو الغيور الدائم أو...أو.. كيف له أن يشقى بإحساسه، ويصر على احتضانه له! أمّا أن يُفسر هذا الحب بالأنانية، التي تزيح من في طريقها، فهذا منتهى التشويه لمفهوم «حب النفس» الذي أعنيه، فنرجسية الإنسان المفرطة هي العلة وراء كل كرب، وذلك الحب الذي أعلن عنه هو البداية لكل فلاح، فكيف يستويان!

ونحن إذ نشارف على ختام عامنا، فلا ينبغي أن يكون احتفاؤنا بآخر يوم فيه، فالأولى أن يطوى مع سابق أيامه، وإن كان لا بد لهذه الفرحة المؤمّلة بما هو آت، أن تخلع على نفسها ثوب الاستبشار، فالمنطق أن يكون التوقيت في أول يوم من السنة. وعلى أية حال، فالأعياد هي ما نؤرخه بحسب تقويمنا لها، فكم يوم سعدنا به على غير موعد!، وكم ميعاد انتظرناه فخاب معه التوقع!، فأجمل اللحظات هي التي تفاجئنا ولا نخطط لها، حتى إذا طمعنا في معاودة إيقاظها، أتى وميضها باهتاً، لا يحمل معه من ابتسامة السماء الأولى شيئاً، فإن كان نصيبنا من السعادة ضئيلا، فلا يجب أن تسوؤنا الأحوال، حتى لا نرى شيئاً يسرنا، فكم مشكلة صادفتنا، وكم ضيق عايشنا، فغادرا وولى أمرهما، أفلا يكون لذلك بعض الأثر الطيب في نفوسنا؟ ليكن تقديرنا (لنا) أكبر من سخطنا (علينا).