رفض الربط الشمولي بين أزماتنا العربية

TT

كيف يتم نقل الأعمال الانتحارية من مناطق محتلة، وشوارع تل أبيب، إلى عواصم عالمية وعربية، عبر سلسلة من الترابط الذهني، فيتحول معها الجنون المفهوم هناك، إلى جنون غير مفهوم هنا، يستعصي على الإدراك الشعبي ويحير النخب..؟! فبنية التطرف السياسي والديني في منطقتنا العربية، أخذت تتطور تحت مظلة فكر من بقايا الأمزجة الثورية، التي سادت عبر خطاب شمولي يجتهد في ربط كل الأزمات ببعضها، لتبدوا الحلول المطروحة أكثر تعقيدا، وتقدم المبررات لحلول تدميرية ودعوة للخلاص الشامل، من خلال هدم الأوضاع القائمة وبنائها من جديد. مع هذا الفكر تبدو تفاصيل الواقع غير ذات أهمية، والخوض فيها تعطيل لقيمة الشعار المرفوع، وانتهاك للجزء باسم الكل. وتحولت قضايا الأمة إلى أداة تبريرية في يد أنظمة وأحزاب لتحقيق أهدافها الخاصة، باسم هذه القضية أو تلك. هذا الخطأ المبدئي في التعامل مع أزماتنا العربية وقعت فيه حتى بعض النخب المعتدلة، في تعزيز هذه الآلية بربط القضايا العربية ببعضها، بدون أن تشعر بخطورته، عبر مقالة وندوة وخطبة يشحن بها الجمهور، عندما همش خطابهم متغيرات ومشكلات ذاتية كبرى، وضخم حضور الآخر، باعتبار أن كل الأزمات تبدأ منه وتعود إليه.

العنف يحتاج إلى تبريرات كامنة في الوعي والثقافة التي ينتمي لها الفرد المنخرط فيه، يمكن عن طريقها بناء سلسلة من الأسئلة والأجوبة الجاهزة، والقادرة على تحقيق مشروعية، أو شبه مشروعية، لديهم ولدى أنصاره.. وترى «أرندت» أن العنف بطبيعته أدواتي، وهو ككل وسيلة يظل على الدوام بحاجة إلى توجيه وتبرير، في طريقه إلى الهدف الذي يتبعه، ويحتاج إلى تبرير يأتيه من طرف آخر.

وكثيرا ما يكون هذا الطرف الآخر في صف المعارض للعنف من ناحية المبدأ، لكنه يسوق آلياته ومبرراته في أطروحته. الخطاب الذي نشأ في التفكير السياسي العربي المعاصر، يعتمد على الترابط المبالغ فيه بين الجزء والكل، مما أوجد بيئة خصبة لغرس مفاهيم العنف وتجنيد أنصار له. وتسربت هذه الآلية في فهم قضايا السياسة إلى الوعي الشعبي، بعد رحلة طويلة من الشحن والتعبئة الذهنية.

لا يمكن تأسيس فكر معتدل حينما يتم الربط في الخطاب السياسي والثقافي والديني، بين محاربة الإرهاب وقضايا الإصلاح والتنمية بمصير الحل مع إسرائيل ومسار عملية السلام، واسترداد الحقوق الفلسطينية. لقد أكدت التجارب التاريخية الماضية، أن هذا الربط ليس مفيدا للقضية الفلسطينية ذاتها، ولا للدول العربية. منذ سنوات تسللت هذه اللغة إلى التيار المعتدل في ساحتنا، لاستعمالها في كل مناسبة باسم مواجهة الضغوط الأميركية على المنطقة والتدخل في شؤونها، وفائدتها في تقديم حواجز وعوائق وقتية، أقل بكثير من مخاطرها في تسميم وعي المجتمع وتعزيز التطرف السياسي.

المطالبة بفك الارتباط بين محاربة الإرهاب، وعدالة أميركا في إيقاف الممارسات الشارونية، أو التدخل الأميركي في العراق على مستوى الخطاب الإعلامي والديني، تفرضها النتائج السيئة التي أفسدت قيمة النضال الفلسطيني ذاته، وهو حق أقرته أنظمة ومواثيق دولية.

إن تجزئة القضايا على مستوى الخطاب والفعل، هي الخطوة الأولى للقضاء على مقدمات الخطاب السياسي المتطرف. الرؤى الشمولية والكلية لها قيمتها الأولية في تعزيز فكرة التضامن، لكن الإفراط فيها يقود إلى خلط للأوليات، ويتداخل الجزء بالكل مفسدا المنطق العلمي. العقل العلمي يولد مع الترتيب المتسلسل للأحداث. من السهل الانطلاق من مبدأ أن كل شيء متصل بشيء آخر، لكننا على المستوى العملي سنضطر للتوقف وإلا تعذر فهم الواقع لدينا. وهذا الجانب يقودنا إلى جدل فلسفي ليس هذا مكانه، حول مفهوم الجزء والكل والعلاقة بينهما الذي ابتدأ مع ديموقريطس في اليونان القديمة.

يعتمد التفكير السياسي العربي على آلية المسار الواحد في التحليل والفهم، وينتقل من فكرة إلى أخرى عبر ترابطات كلية مبسطة، تتداخل فيها المسائل الإقليمية والعالمية، مع أن الواقع المعاش أكثر تعقيدا من هذه الآلية، وإذا كان يمكن تقبل ربط القضايا العربية في سياق الفهم والمواجهة الجماعية، فإن فك الارتباط يتحول إلى ضرورة عقلية وأخلاقية إذا قدم في سياق التبرير لسوء أوضاع أو أعمال عنف هنا وهناك. الخطاب الديني الوعظي بحكم سهولة تصديره عبر آليات منطقية مبسطة في تعزيز الارتباط بين قضايا الأمة لرؤية العالم وأزماته، مهد لتوريط الشرائح المنتمية له من النخب والعامة في تعقيدات سياسية كبرى، ونقل العناصر الجريئة إلى منطقة الفعل تحت مخدر طرح شمولي قيمي، يتجاهل الفارق بين الواقع كما هو، والواقع كما يجب أن يكون. إن السياسة بطبيعتها لا تقوم على معرفة كلية وتقنية، لأنها تنتمي إلى مدار الفعل والعمل، وما يعرف بالمعرفة العملية، ولا تنتمي إلى مدار الجمال والأخلاق والصحة النظرية، وهو مالا يستطيع الخطاب الديني التخلي عنه.

بالتأكيد هذه ليست دعوى للتخلي عن هموم عالمنا العربي والقضية الفلسطينية، وعدم التفاعل مع ما يحدث في العراق، لكن ألا يمكن إنشاء لغة وخطاب إعلامي يفصل بين الأزمات التي تختلف في متغيراتها ومعطياتها، من دون التأثير على حالة الانتماء للأمة. الواقع يقول إن كثيرا من التيارات القومية والإسلامية لا تستطيع الجمع بينهما في خطاب واحد، ليس لأنهم لا يريدون، وإنما لأنه يقلل حرارة الخطاب، ويضعف قدرته على تأجيج الجمهور وحشده، فهناك تناقض جوهري بين التعبئة الجماهيرية واللغة العقلانية. في الجانب الآخر، يستفيد التطرف الإسرائيلي من هذا الربط، وقد عززه حينما حاول ربط الحملة الأميركية العالمية على الإرهاب بحل القضية الفلسطينية، وقد تنبه التيار الفلسطيني المعتدل،إلى خطورة هذه الفكرة على مستقبل القضية. إن الإصرار على فك هذه الارتباطات الشائعة في الخطاب العربي وتفنيدها، قد يعزز انتشار الفكر المعتدل تلقائيا، من خلال تجزئة الأزمات، والتعامل مع كل قضية وفق شروطها العملية.

* رئيس تحرير مجلة «المجلة»