تاريخ الجرح الأندلسي

TT

ما أطرى ذلك الجرح وأعمقه في الذاكرة العربية، فرغم خمسة قرون ونيف كأن الثاني من يناير (كانون الثاني) الذي يجدد ذكرى ذلك الجرح الذي لا يريد أن يندمل حدث البارحة وليس في عام 1492 ميلادية.

خرج أبو عبد الله الصغير من غرناطة في ذلك اليوم وهو يبكي ووقف يتحسر كما قيل لنا فوق هضبة البادول فأطلقوا على المكان الذي وقف فيه في ذلك اليوم من أيام الجرح الأندلسي أسم (تنهيدة العربي الأخيرة)، الذي استغله سليمان رشدي في واحدة من رواياته.

وها هو أبو عبد الله يعود الى مملكته حاليا في معرض مشترك مع ايزابيلا وهو أقل تجهما، فلأول مرة نرى التاريخ ينصف ملكا مظلوما ويرينا رسالة منه كتبها قبل سقوط غرناطة بعامين يحث فيها أهل البشرات (البوكاراس) على قتال الاسبان المعتدين على ولايات مملكته الصغيرة.

اذن حث الرجل على القتال وقاتل كالرجال ولا معنى لتلك العبارة الجارحة التي تجدها في كل مكان «إبك مثل النساء ملكا لم تحافظ عليه مثل الرجال» التي يزعمون ان عائشة الحرة أمه قالتها ولم يشكك بها غير الشاعر أراغون في «مجنون الزا» فلا الظرف ولا أسلوب الخروج يسمحان بعبارة من هذا النوع الرجيم.

وان كان لا بد من بكاء فعائشة الحرة أحق وأحرى أن تبكي لأنها هي التي حكمت ولم يكن ذلك الملك المسكين الا ضحية لطموحها السياسي ومطامعها لأنها وظفته منذ كان طفلا كأداة من أدوات صراعها مع ضرتها الثريا ولما قاتل في شبابه الأول وأسره فرديناند ألزمته بالتحالف معه ثم فضت الحلف نيابة عنه فلما صار ابو عبد الله حاكما فعليا لم يجد حوله غير أهل البيازين الحزب المتحمس للملكة الأم.

وما الوقت وقت محاكمة الأم ولا ابنها فقد فات الأوان وأصدر التاريخ حكمه القاطع بتحميل فرد واحد مسؤولية انكسار أمة كاملة ولولا هذه الرسالة اليتيمة التي ترينا الوجه المقاتل للملك المهزوم لظنناه كأسلافه يعاقر الخمرة وينادم الجواري والخصيان بينما الغزاة على أبواب قصره وهم موجودون في المعرض الحالي بكثافة فلا يمكن لمعرض يقام في ذكرى وفاة ايزابيلا أن يهمل سنوات الحصار في سانتافي القريبة من قرية لوركا، حيث تجمعت أوروربا كلها خلف فرديناند وما كان خلف أبي عبد الله من العرب الا حفنة تقاتل عكس اتجاه التاريخ حتى لا يقال انها سلمت دون قتال.

لقد كان سقوط غرناطة نتيجة طبيعية لانهيار دولة المرينيين التي كانت تمدها بالمؤنة والجند وأسباب البقاء فلما زال الأصل سهل القضاء على الفرع وكانت الممالك الاسلامية تتفرج كعادتها فبول لين يخبرنا في كتابThe Moors in Spain ان ملك غرناطة النصري كان قبل انهزامه يستصرخ ويطلب النجدات من القاهرة ومن العثمانيين القوة الصاعدة آنذاك في الآستانة وقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن..

لقد خان هذا الملك المظلوم كل شيء حتى موته كما نص على ذلك محقا انطونيو جالا في «المخطوط القرمزي» وكان التاريخ اكثر ظلما له من الكائنات. وهل التاريخ كما يقول كارنو: الا تضييع دائم للحقيقة، أم لعل هذا التاريخ مهرج كبير يمد لسانه على وجه الخصوص للعرب الذين جعل أكبر هزائمهم في تلك البقاع تقع في مثل هذه الايام على يد بني نصر في غرناطة.