عصر كوندي.. بوابة الخروج من صدمة سبتمبر

TT

بتولي كوندوليزا رايس حقيبة الخارجية في الولاية الثانية للرئيس بوش، تكون الادارة الامريكية قد حققت الانسجام والتوافق بين عناصرها المحورية الفاعلة (نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد والمستشارة السابقة للامن القومي كوندوليزا رايس).

وكما اشار الكثيرون، فان رايس تشكل في آن واحد استاذة الرئيس بوش التي علمته ابجديات العلاقات الدولية واقرب مستشاريه الى فكره وقلبه، وقد نعتها بأنها تحسن التعبير عن ما يستشعره وتتقن الدفاع عن قراراته.

وقد كثر الحديث في الاعلام العربي السيار عن شخصية رايس التي يصفها الكثيرون بالراديكالية والتشدد، وترديد الاحكام والمواقف المتصلبة، كما صنفت غالبا في خانة المحافظين الجدد المعروفين بميولهم العدوانية ضد العرب والمسلمين، واعتبرها البعض الآخر اقرب للاصولية المسيحية المتطرفة.

وعلى الرغم من هذا كله، لا خلاف على كونها الوجه الاكاديمي والفكري الابرز والالمع داخل الادارة الامريكية. فهي خريجة اعرق الجامعات، وتتقن عدة لغات اجنبية من بينها الروسية، كما درست العلاقات الدولية في اكبر الجامعات الامريكية، ومارست العمل السياسي والدبلوماسي مبكرا، ولها فضل لا ينكر في تهيئة وتوجيه الرئيس بوش للوصول لمقعد الحكم الذي لم يكن مهيأ له.

ومع انها لا تخفي ميولها المحافظة، الا انها ليست منغلقة ولا متشددة في الحلقات الاجتماعية الداخلية. ولعل لخلفيتها القومية ـ بصفتها تتحدر من الاقلية السوداء ـ دورا في توجهاتها المنفتحة.

بيد ان اهمية رايس تكمن في طبيعة فكرها السياسي الذي بسطته في عدة كتب ودراسات وابحاث منشورة، ليس هذا مجال تفصيلها وبسط القول فيها.

وبالرجوع لاحدى هذه الوثائق الاساسية، وهي دراسة منشورة عام 2000 في اطار برنامج الحملة الانتخابية الاولى للرئيس بوش، نلمس تصور كوندي (كما يدعوها اصدقاؤها المقربون) للسياسة الخارجية الجديدة للولايات المتحدة.

تذهب رايس في الدراسة المنشورة في مجلة «فورين آفيرز» (يناير/فبراير 2000) الى ان هذه السياسة يجب ان تنطلق من مبادئ خمسة اساسية هي:

ـ بناء قوة عسكرية مؤهلة لضمان استمرارية وتوطد التفوق الامريكي.

ـ الحسم الصارم مع الانظمة «المارقة»، المتمردة على الشرعية الدولية.

ـ بناء علاقات مقبولة ومتوازنة مع روسيا والصين.

ـ اطلاق يد الرئيس في اتخاذ القرارات التي يقتضيها الدور الريادي للولايات المتحدة في العالم.

وترى رايس ان التحدي المطروح على امريكا هو اعادة صياغة النظام الدولي وفق مصالحها واهدافها الاستراتيجية، باستغلال الفرصة السانحة التي وفرتها المرحلة الانتقالية التي تلت الحرب الباردة، معتبرة ان ادارة كلينتون قد استبدلت معيار المصلحة القومية بمقولة المصالح الانسانية او فكرة المجموعة الدولية، في حين يتعين اعطاء الاولوية للمصالح القومية الامريكية، باعتبار ان تركيز الولايات المتحدة على مصالحها الذاتية يؤدي عمليا الى تعزيز الحرية والسلم والرفاهية الاقتصادية في العالم.

فالقيم الامريكية هي قيم كونية، ولا شك ان نشرها وتوطيدها اسهل عندما تكون موازين القوى الدولية في صالح من يؤمن بها (أي الولايات المتحدة نفسها). وتخلص رايس في تحليلها المسهب للعلاقة مع القوى الدولية التقليدية (الصاعدة)، الى ان السياسة الخارجية للادارة الجمهورية الجديدة يجب ان تكون أممية مفتوحة على الخارج، بيد ان خلفيتها المرجعية هي الوعي بالمصلحة القومية الامريكية والدفاع عنها.

فهذا التصور يحمل ضمنيا مؤشرات التغير الذي حصل في الرؤية الاستراتيجية الامريكية بعد احداث سبتمبر 2001، على الاقل في ثلاث نقاط اساسية هي:

ـ تكريس اولوية المصلحة القومية الامريكية على التزامات الولايات المتحدة الخارجية وعلى مقتضيات الشراكة الدولية.

ـ التحرر من فكرة الشرعية الدولية بصفتها من موروثات الحرب الباردة، ومقيدة بتوازناتها التي لم تعد قائمة.

ـ تحميل الولايات المتحدة امانة التغيير الديمقراطي في العالم بصفته من متطلبات المصلحة القومية الامريكية.

بيد ان ما يميز اسلوب رايس هو كونها تضمن هذه المبادئ قاموس العلاقات الدبلوماسية بلغته المألوفة المقبولة، وتتجنب الصياغات النظرية الراديكالية المتهورة، خصوصا ما يتعلق منها بالاعتبارات الدينية والثقافية فترفض مقولات الصراع الحضاري والصدام الديني.

فلئن كانت تعزز فكر التيار المحافظ الجديد بأطروحاتها السياسية العالمة والمعمقة، الا انها تحافظ على آليات وثوابت المدرسة الدبلوماسية الامريكية من خلال الجمع المرن بين النزوع القيمي والمسلك البراغماتي، وبين الاحادية الاستثنائية والشراكة الائتلافية.

ومن غير الدقيق الخلط بينها وبين مبشري الثورة المحافظة الجديدة، حتى ولو كانت مواقفها المتصلبة المتشددة تقربها منهم في بعض الاحيان.

ففي الساحة الشرق اوسطية مثلا، ولئن كانت تتبنى مقاربة بوش في تغيير الاوضاع السياسية ونشر الديمقراطية وقيم حقوق الانسان، فانها مستعدة للتعامل بواقعية حذرة مع التوازنات الداخلية القائمة في البلدان العربية، محذرة من اثر التغيير الجذري على المصالح القومية الامريكية ذاتها. ولئن كانت من اكثر عناصر الادارة الامريكية دعما لاسرائيل وقربا من رئيس حكومتها المتطرف، الا انها تؤكد بصراحة ان امن اسرائيل لا يتحقق الا بحل ناجح للمسألة الفلسطينية من خلال خيار الدولة المستقلة.

ولذا يمكن القول ان حقبة كوندي قد تكون حقبة الخروج من صدمة 11 سبتمبر والبحث عن صيغة توفيق ممكنة بين طوبائية المحافظين الجدد العدوانية ومقتضيات واكراهات الوضع الدولي.