قبل أن تنتهي المناحة

TT

سألت شاعرا عربيا همشريا من هؤلاء الذين عندهم الجواب الجاهز لكل مسألة قديمة أو معاصرة: هل المنع المحلي أخف وطأة من المنع الأجنبي وهل يصبح الظلم عدلا ان أتاك من عشيرتك الأقربين؟ فقال الشاعر دون تردد وكأنه كان ينتظر السؤال:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهند

ووقع المهند البتار أو قرار معاقبة «المنار» لا فرق ، فقد كنت أريد هذا الجواب لأني ومنذ أن بدأت مناحة «المنار» قلت بيني وبين نفسي ها نحن أمام مناحة تشبه مناحة ابوغريب التي حولتنا جميعا الى مدافعين أشاوس لأن الجلاد كان أجنبيا ولم يكن من بني جلدتنا والا لكان خوض تلك المعركة ضروريا منذ زمن طويل ، فنحن نعذب ونسجن ونذيب بالاسيد منذ نشوء الدولة العربية المعاصرة ، لكن لم يخطر لنا أن ننظم حملات ضد التعذيب في السجون إلا حين اكتشفنا ان المعذب في هذه الحالة ليس منا.

مع «المنار» أيضا صرنا جميعا مدافعين عن الإعلام الحر وكأن صحفنا لا يتحكم بحجم ليبراليتها غير كتابها ، أو كأن تلفزيوناتنا تبث بحرية مطلقة دون أي قيد أو شرط ، ولا قوائم سوداء وزرقاء وبنفسجية.

في هكذا مناخ ، مختلط الأوراق وملتبس الأدوار، يأتيك كاتب تربى عند ستالين في موسكو وليس عند ديغول في باريس ليحاضر في حرية الاعلام وقد كان الى البارحة يمنع أي حرف لا يغني للراية الحمراء، وبعده يجيئك صحافي من الذين علقوا المشانق لزملائهم بسبب كتابات انتقادية رمزية في صحف الحائط ليلعب دور فولتير العربي، ثم تكتمل المناحة بكاتبة لم تدافع عن أي معتقل رأي ولم توقع على أي بيان للدفاع عن حرية التعبير في بلادها لتتغنى بشجاعة الاعلام العربي الحر الذي صار أكثر مصداقية من الاعلام الغربي والشرقي ، وكأننا لا نعرف ذلك الاعلام ولم نعايشه. وقبل أن تنتهي المناحة أو يفهم من هذا الموقف أنه دفاع عن باريس أو واشنطن ، دعوني اذكر ان نفعت الذكرى بأن التوقف عند البديهيات مضيعة للوقت ، فمن بديهيات الحقبة الأميركية الأولى للألفية الثالثة ان كل مقاومة أصبحت بالمفهوم الأميركي ارهابا وسواء كان المقاوم يقاتل بالرصاص أو باللسان والقلم فان الموقف الغربي منه لن يتغير، وعليه أن يتوقع المنع والمصادرة والمقاطعة وأخيرا القصف ان لم يتعظ من الاشارات التهديدية الاولى.

والسؤال الجوهري هنا ليس عن حالة «المنار» وحدها ، بل عن صورة أوسع وأشمل ، فهل من حق أميركا أن تحكم العالم مثل أي بلطجي وأن تؤدب وتعاقب على كيفها؟

جميع دول العالم ستقول لا وألف لا، لكن الذي يحصل أنها تفعل ذلك والجميع يطأطئون رؤوسهم ويسكتون، وفي هكذا حالة أيهما أجدى ، أن ندخل في مقارنات لا وجود لها وندعي لإعلامنا حرية ليست عنده ، أم أن نعترف ـ بيننا وبين أنفسنا على الأقل ـ بأن مقاومة المستبد الخارجي لم تعد ممكنة بالوسائل والأدوات الحالية؟

لو فعلنا ذلك فقد نهتدي عند الجدار الأخير الى وسائل مقاومة جديدة تلائم شراسة الهجمة . أما الاكتفاء بالمناحات الموسمية ونقد الدولي والسكوت عن المحلي فسياسة نفاق ذات وجهين تماما كالسياسة الغربية تجاه القضايا العربية العادلة.

[email protected]