الهند ترفض

TT

يلقى الانسان خيطا رفيعا من الفضة والامل حتى في زبد اعمى كالموج الذي اعتى على اهل المحيط الهندي. واثلج ما سمعت وسط انباء وارقام لا تكف عن التفاقم، ان الهند رفضت المساعدات الدولية في الكارثة. وبدل ذلك اطلقت قواتها الجوية والبرية والبحرية الى البلدان المنكوبة المجاورة تشارك في عمليات الانقاذ والاغاثة.

الى سنوات قليلة خلت كانت الهند تقف على ابواب الدول الغنية في الطابور مع صف طويل من الدول الاخرى. لقد انتهى بالنسبة اليها زمن الاستعطاء. ووصلت اخيرا الى المرحلة الاولى من الصورة التي رسمها لها جواهر لال نهرو، ذلك الاريستوقراطي الثري الذي تبنى الاشتراكية، وطالب كيمبريدج الذي امضى عشر سنوات في سجون البريطانيين، وزعيم الدولة الفقيرة التي اختار لها عدم الانحياز. لا تولد الدول من فراغ ولا تقوم الامم من دون قادة. الهند اليوم هي نتيجة المسيرة التي بدأها رجل سماه والداه «الجوهرة الثمينة» لطول ما انتظرا قدوم وليد ذكر. واذا كان المهاتما غاندي العائد من اهانة جنوب افريقيا العنصرية رائد الاستقلال، فان نهرو هو الذي بنى الدولة الحديثة القابلة للحياة. بناها على اسس وثقافة حزب المؤتمر الذي اسسه رجل اسكوتلندي في القرن التاسع عشر (وليس كما ذكرت مرة، تقليدا لحزب الوفد المصري) وقام على التناوب والتعددية بين الاعتناقات التي تقوم عليها الهند.

وظل جواهر لال نهرو، مثل والده قبله، بلا مذهب، ورفضه الهندوسيون في البدء لكن طاقاته القيادية تفوقت على كل شيء. كان هناك مذاهب كثيرة واديان فأبقاها. وكان هناك لغات واسعة الانتشار فأبقاها. وكان هناك اجناس واعراق وبشرات كثيرة، فجعلها كلها في ظل الهند. ليست الهند اليوم البلد المثالي او النموذجي. لكنها الدولة التي استطاعت ان ترفض المساعدة فيما لا تزال بعض بلداننا تقف على الابواب. وهي دولة من مليار، لم تستطع الغاء الفساد او المافيات، الا انها ليست كلها فسادا ومافيات. وثمة تخلف كبير، لكن هؤلاء المليار يغيرون حكوماتهم وبرلماناتهم واحزابهم في حرية مذهلة وهدوء مثير.

وعندما فاز الحزب القومي الهندوسي بزعامة فاجبايي، قلت في نفسي لقد انتهى الامر ووصل الفاشيون وسوف يحرق المتعصبون العصابيون تجربة الهند. لكن حزب المؤتمر عاد فربح الانتخابات بزعامة امرأة من ايطاليا، كل اهميتها وتراثها انها انتسبت الى هذه العائلة التي اسست الهند المعاصرة. مات آل نهرو صغارا مثل معظم افراد العائلة التي جاءت الى دلهي من كشمير. قتلت انديرا برصاص حراسها وقتل ابنها الاكبر راجيف بهراوة من الغباء الانفصالي نفسه. ولم يعد في البيت سوى ارملة من ايطاليا. ومع ذلك قدمت هذه العائلة للهند ما لا يقاس من انجازات الا بالعصور. لقد حكم نهرو وسوكارنو وعبد الناصر وتيتو في مرحلة واحدة. فخلِفت سوكارنو مذابح بالملايين ثم فساد سوهارتو. وبعد تيتو سقطت يوغوسلافيا اشلاء في احقاد القوميات وعنصرياتها الراكدة. فما هو العامل الذي ادى الى هذه النتائج؟ لقد اغفلت دول عدم الانحياز شيئا اساسيا هو الحرية. وعندما غابت المحاسبة غاب كل شيء. ولما غاب الحاكم «الإله» تفجرت الحقائق مثل زبد المحيط الهندي. لقد حاربت دلهي الفقر بالحرية والعلم. واعطت الناس حق الاختيار دون خوف. فلم يتغير شيء مع مجيء شاستري ولا مع مجيء فاجبايي. عندما تستقيم المؤسسات يأتي الرجال ويذهبون. ونهرو الذي دخل سجون الانكليز ثم خرج ليحاربهم، هو الذي نقل عنهم بناء المؤسسات واحترام تعدد الآراء والاقتناع بأن الانسان مخلوق بشري قابل للخطأ والصواب. وان البشر والناس طاقات وقدرات وعلوم وانجازات ومواهب وعباقرة ومراجع ومبدعون، وهؤلاء يتقدمهم رئيس لا قائد. فهم رعية عظيمة لا قطيعا تطارده الكلاب لكي لا يخرج عن السياج والعشب المخصص لاجتراره.

لذلك رفض الشعب الهندي المساعدة. انه الآن واحد من شعوب العلم والتكنولوجيا والطب والدواء في العالم. ولم يعد يسعى الى اكياس القمح التي ترمى اليه على الموانئ. فلنتعلم من تجربة الهند التي بناها نهرو. لقد خلفه في حكمها الشعب الهندي. ولو شاءت لخلفته في حكم المليار، سيدة من ايطاليا، حق لها الحكم لانها من مدرسته وليس من حزبه.