.. وانفجرت الفيلة من تلقاء نفسها..!

TT

يحق لهذه السنة أن تسمى بحق سنة الانتخابات العربية ، ستبدأ هذا الشهر بفلسطين والعراق ، وستعرج على المملكة العربية السعودية (المجالس البلدية) ثم لبنان ، وغيرها...

والصحف مليئة بالكتابات عن الانتخابات وتأثيراتها. بعض الأصوات لا يجد في هذه الانتخابات شيئاً مهما. ويعود ذلك للشكوك في عملية الإصلاح السياسي التي أعلنتها الولايات المتحدة ، والتي تأتي الانتخابات العراقية كفتيل ، يفترض فيه أن يطلق العملية الديمقراطية في العالم العربي بشكل عارم.

لكن الصوت الأقوى يرى في الانتخابات ظاهرة إيجابية في السياسة العربية ، بعد عقود من الركود ومن غياب الانتخابات ، ومن كونها حين تعقد مزوّرة. ويؤكد هذا الخطاب على أهمية تبديل الراعي، فبدلاً من أن يكون الحكم بيد فرد مستبد ، أو فئة صغيرة مستأثرة بمقاليد الأمور، تقوم الغالبية من المواطنين البالغين بحكم نفسها ، عبر ممثلين منتخبين تستبدلهم بشكل منتظم بعد فترة.

والتاريخ دون شك يقول إن المصائب التي تحل بالشعوب ، هي أقل في الأنظمة التي تحكمها الأغلبية ، من تلك التي ينفرد بالسلطان فيها شخص واحد أو أفراد قلة ، يفعلون ما يحلو لهم دون حسيب أو رقيب. لكن دعونا أيضا نتوقف لنحذّر: وصفة الديمقراطية التي تجسدها الانتخابات ، هي عملية تعطي ثمارها بعد فترة طويلة وعثرات كثيرة ، تمثل ضرورة لا مهرب منها ، يتعلم فيها الناخبون من أخطائهم ، ويطوّرون أثناءها دفاعاتهم ضد طائفة من رجال السياسة ، الذين عبر معسول الكلام والوعود ، والرشاوى في أحيان كثيرة ، يصلون إلى الحكم ويتنكرون لوعودهم الانتخابية ، ويناقضون برامجهم الحزبية. طريق الديمقراطية الطويل مليء بأمثال هؤلاء الأفاقين والمحتالين.

يكفي أن نرصد نموذجاً مثل يلتسين الديمقراطي ، الذي غيّر تاريخ العالم بتحطيم الدول الشمولية في الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية. وعلينا أن نتذكّر ما حدث في عهد يلتسين بالضبط: نهب واسع النطاق لخيرات روسيا، مافيا من المجرمين كانوا يحكمون شوارعها، تجويع للملايين... يلتسن ، بطل الديمقراطية في روسيا، وباقي ممثلي الشعب الروسي في الدوما ، خانوا برامجهم ووعودهم لناخبيهم ، وجعلوهم يترحمون على أيام الديكتاتور ستالين.

لا ريب أن الديمقراطية أثبتت اليوم أنها الأكثر فاعلية اقتصادياً، والأعظم استقراراً سياسياً، والأكثر غنى ثقافياً، لكن ليس في دول تبدأ سيرها في الطريق ، بل في مجتمعات تحولت فيها الديمقراطية من حبو متعثر، إلى تقليد سياسي راسخ. ولهذا، فالمتفائلون ممن يراقبون تجارب الديمقراطية الجديدة في العالم العربي ، يجب أن يحقنوا تفاؤلهم بجرعة كبيرة من الواقعية. وما هو أهم ، بفترة سماح كافية ، نغفر فيها للتجربة أخطاءها ومهرجيها من أمثال يلتسين.

علينا أن ننتظر طويلاً ، حتى يتعلم الناس كيف يكونون ديمقراطيين ناجحين. لكن هل يتوجب أيضاً الانتظار طويلاً لنفهم أن معضلة السياسة العربية ، التي لا تحتمل الانتظار، ليست فقط في غياب حكم الأكثرية؟

إفراطنا في التفاؤل حول الديمقراطية ، يضللنا عن مسألة أهم من الديمقراطية: إن المشكلة ليست في إبدال الراعي الديكتاتور برعاة منتخبين ، المسألة تتعلق بالوحش الذي يسوسه هذا الراعي ، الدولة العربية الضخمة والقوية والمستأسدة على مواطنيها، والتي تحصي أنفاسهم ، وتتنصت على أحاديثهم ، وتتدخل في زواجهم وعملهم وترفيههم ، مرة كدولة بوليسية مرعبة ، ومرة ثانية كدولة رفاه تزعم أبويتها للأفراد ، ورعايتها لهم من المهد إلى اللحد ، ومرة ثالثة كرب عمل ، كدولة تحتكر الاقتصاد ، بحيث لا يفلت إنسان من حاجته ليكون موظفاً عندها.

كيف لي كمواطن إزاء دولة كهذه ، أن أنتخب أحداً؟ هل انتخب شرطياً ليخيفني ، أو أباً ليرعاني ، أو رب عمل ليوفر لي وظيفة؟

من الواضح أننا لسنا نواجه مشكلة تمثيل انتخابي فقط ، بل لعل مشكلة التمثيل هي الأقل أهمية إزاء المشكلة الأكبر: تضخم الدولة وتدخلها في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، واضطرارنا أن نسترضيها ونستعطفها ، ونحصل على موافقتها في كل شيء، دولة فيل وما نحن إلا نمل تحت أقدامها ، دولة تزعم لنفسها الحكمة في كل الأمور ، فتحشو عقولنا في مدارسها، وتشخص أمراضنا، وتصف الأدوية لنا...

لكن هذه الدولة التي يفترض أن تحمينا، لا تكف عن إخافتنا، وبدلاً من أن تيسّر معاملاتنا وتوفر المناخ للعمل الاقتصادي ، نجدها تعقّد شؤوننا الحياتية ، وتزيد ضيق العيش ضيقا... هذه الدولة الأمنية البيروقراطية مشكلة كبرى ، ليست لنا، بل لنفسها أيضاً. لنفسها، لأن طموحها لتكون إلهاً كلي القدرة ، يحيط بكل شيء علماً، هو شيء باهظ التكلفة ، وعسير المنال. والدول الضخمة ، ولحسن الحظ ، انفجرت من تلقاء نفسها، والموجود منها حالياً ، إذا نحن قسنا بتحولات التاريخ ، سيلحق بالديناصورات...

الذي لا يُذكر كما يكفي في تجارب الدول الناجحة ، ليس أنها تُحكم عبر الأغلبية ، بل أنها وهي القوية في علاقاتها الخارجية ، وفي نشاطها الاقتصادي والسياسي والعسكري ، تتميز إذا ما قورنت بدولنا ، بأنها تملك نطاق عمل أقل بكثير. المذهل في التجربة الغربية ، هو أنها باستمرار كانت تُصغّر وتضعف دولها إزاء مجتمعاتها. وليس هناك سر يذاع عن الكيفية التي يتحقق فيها هذا الانجاز الباهر.

الكيفية تكمن في أن الأصل في الأشياء هو الإباحة والترك ، وليس المنع والتضييق. أنت لست بحاجة في هذه الدول لتحصل على رخصة من وزارة الإعلام ، لأجل إقامة حفل غنائي ساهر في احد المسارح. يمكنك فعل ذلك أساساً من دون ترخيص ، ليس فقط لأنه لا توجد وزارات إعلام ، تملك الحق في الترخيص بإقامة الحفلات والترخيص للصحف والمجلات وإباحة الكتب ، بل لأن الأصل في الأشياء أن كل شيء مباح ، والاستثناء بالمنع يتم قضائياً ، حينما يقوم فرد أو جهة بالادعاء بنجاح أمام المحاكم ، بأن هناك ضرراَ يقع بسبب هذا النشاط ، وأنه لذلك يتوجّب منعه. والإضرار لا يفهم مزاجياً ، ولا يُفسّر بثوب واسع ، على طريقة أنك جرحت ذوقي الفني أو حساسيتي الأخلاقية. الإضرار يجب أن يكون محسوساً قابلاً للإثبات ، وله طابع مادي بالدرجة الأولى. حتى الإضرار المعنوي ، ليس كافياً ، فأنت لست مرغماً على الذهاب لهذا الحفل ، أو مطالعة تلك الصحيفة أو مشاهدة ذلك الفيلم...

ولذلك فالقوى الدينية في الغرب ، محرومة من الميزات التي تتمتع بها بعض قوانا الدينية .