كي لا تخسروا العراق

TT

لو طلب مني ان أكتب عن النسيج الاجتماعي في المغرب، وعن ايجاد الحلول المناسبة لمشكلة الصحراء مثلا، او عن رأي الناس بالسلطة والقوانين والأحكام هناك، لرفضت هذا الطلب دون تردد، رغم زياراتي المتعددة لهذا البلد العزيز، ولكن الزيارات الخاطفة شيء، والخوض في تفاصيل حياة الناس والكتابة عن مشاعرهم واحاسيسهم، ومحنهم وهمومهم واحلامهم، وعلاقة بعضهم بالآخر امر مختلف تماما، والأمر نفسه مع حال الأقباط في مصر (مثلا)، وما يشاع عن معاناتهم أو اقصائهم او تهميشهم، او ما تؤكده وسائل الإعلام المصرية من وجود مؤامرة خبيثة لفتح ثغرة موجعة في نسيج المجتمع المصري، هذا المجتمع الذي بتنا نعرف عنه أكثر مما نعرف عن باقي اجزاء الوطن العربي، بسبب قوة الإعلام المصري في العقود السابقة ودخوله إلى حياتنا عبر السينما والأغنية والدراما والكتاب. ولكن يبقى لهذا المجتمع المصري اسراره التي لم ولن يبوح بها، وتركيبته الاجتماعية المتناقضة في جوانب، والمتناغمة في جوانب أخرى، والتي تضم البدوي والحضري والريفي والصعيدي والقبائلي والمهاجر (من اصول يونانية أو ايطالية أو بولونية)، والمسلم والمسيحي والقبطي واليهودي، والسني الشافعي أو الحنبلي أو من مريدي الإمام أبو حنيفة أو الجعفري والشيعي والمتصوف... وكلها مؤشرات ايجابية ووقفات مضيئة تدل على حيوية ووعي هذا الشعب وخزينه الثقافي والحضاري الذي يمتد إلى الآف السنين، لكن من جانب آخر فان الدراما المصرية تقدم لنا صورة هذا المجتمع الزاخر بالطوائف والملل عبر حواديت مسطحة عن صراع الأغنياء والفقراء، وعن كفاح الإنسان واستماتته للقفز من تحت خط الفقر إلى ما فوق هذا الخط. ولكن تبقى لهذه الحواديت شروط غير مكتوبة، أهمها عدم المساس بقدسية المجتمع المنسجم المتكامل، الذي لا يعرف للفرقة أو للتضاد وجودا، حتى لو كان الواقع غير ذلك، ونحن قانعون بما نرى ونسمع ولم نكذبهم يوما، او نصحح لهم أو نحاججهم، لأن أهل مكة أدرى بشعابها، وربما تكون الحواديت التي يقدمونها عن مجتمعهم ولمجتمعهم أولا، ولنا ثانيا، هي ما يريدونه وما يأملونه أو ما يبشرون به من مجتمع منسجم متناغم، لا تشوبه شائبة و لا تكدره إلا الحاجة والفقر، وهم محقون فيما يفعلون من وجهة نظرهم في الأقل لانهم أحرص منا بالتأكيد على مصلحة بلدهم وسلامة مجتمعهم.

أقول كل هذا وأنا أرى عشرات الأقلام العربية، من مشارق الوطن العربي ومغاربه، وهي تحاول ان تضع خريطة اجتماعية لبلدي العراق، لا تقترب من بعيد أو قريب من ارض الواقع، وتستعير لساننا لتقول ما لا نريد أن نقول، وتنسج مجتمعنا كما يحلو لها وكما تريد، وتزيحنا بعيدا كي تأخذ مكاننا وترسم لنا سياستنا وما يناسبنا وما لا يناسبنا، وكأننا شلة من المعوقين ذهنيا والمسلوبي الإرادة والجهلة أو القاصرين الذين لم يبلغوا الحلم بعد، رغم ان ارضنا الطيبة المعطاء تزخر بالعقول التي انارت وما زالت تنير ما حولها، بالعلم والمعرفة والشعر والبلاغة والجمال. والأخطر من هذا ان هذه الأقلام تعطي لنفسها الحقوق والصلاحيات التي تجيز لها إجبارنا على معاداة ابناء بلدنا، وبث الخصومة والفرقة بيننا، وصب الزيت على رماد تأمل ان يتقد يوما ليحرق الأخضر مع اليابس، وهي تنمق الكلام وتستثير العواطف وتجوس بعيونها في بطون الكتب، علها تجد وقودا لحرب تستعدي فيها ناسا على ناس، وتقف فيها إلى جانب فئة كي تنصرها على فئة أخرى، ولا أدري اين كانت هذه الأصوات الحريصة علينا، يوم كان العراق بكل طوائفه وأديانه يعيش تحت حصار جائر ظالم، ويتضور جوعا ويقاسي المرض والألم، في حين يتقاسم الآخرون ثروته ويحاصصونها بين اعلامي مرتش وسياسي يبيع ذكرياته وامجاده القديمة، ويتلقى ثمن مناصرته للظالم على حساب المظلوم، وجمهرة من المفتشين والبائعين والشارين والمهربين وقابضي الأتعاب، ممن يتاجرون بأحزان شعب.

ورغم اننا ضغطنا على جروحنا وفتحنا ايدينا لإخواننا في العروبة والدين من جديد، وقلنا عفا الله عما سلف على طريقة العراقي الطيب المتسامح الذي ينسى الإساءة وينظر للمستقبل، الإ ان هذه الأقلام الحريصة على العروبة تعمل هذه المرة على تقسيمنا حتى قبل ان يفكر الأغراب بذلك، بل هي تعاون وتؤازر من يفكر بتفتيت بلدنا وتقدم له السبل والحجج والقرائن وتجمع له الحطب وتأخذ بيده كي يشعل النار، وأيضا ترسم له على الورق خطا متعرجا يقسم عرب العراق إلى قسمين: شيعة وسنة، وهذا أقصى ما تحلم به امريكا، وما تطرب له اسرائيل التي ضمت معتقلاتها مئات العراقيين الشيعة والسنة ممن ذهبوا دون دعوة لمناصرة اللبنانيين والفلسطينيين، ومحاربة اسرائيل في اي أرض تطأها أقدامها، ودفنوا شهداءهم في ارض فلسطين والأردن وسورية، واختاروا المنافي الإختيارية مع رفاق الكفاح المسلح والانتفاضة، ولاقوا الويلات وهم يؤدون واجبهم القومي والديني والانساني. ولكن يبقى السؤال المهم والخطير هل ان هذه الأقلام تناصر الحق حقا؟ وهل ان شيعة العراق (مثلا) مشكوك في عروبتهم وإسلامهم؟ وهل ان قبائل تميم وخزاعة وشمر وعبادة وبني أسد وآل حارث وبني عامر وآل قيس وبني ساعدة وآل قحطان والدواسر وآل عدنان وآل زيد، وآل وائل وآل هاشم و.. و.. بحاجة إلى هوية احوال مدنية تثبت عروبتهم؟ وهل ان المجتمع العراقي منقسم على نفسه في كانتون يضم الشيعة وآخر يضم السنة؟ وهل ثمة حرب خفية وقديمة تدور بين الطرفين؟ وهل رحب طرف منهم بالأمريكان وفرشوا لهم الارض بالرياحين ورشوهم بماء الورد، في حين حمل الطرف الآخر السلاح ورفض العبودية والإحتلال وهب ليدافع عن العراق، كل العراق؟ وقبل ان ينظر القارئ الى اسفل المقال كي يتبين هويتي ويستشف منه المذهب الذي اعتنقه، أطمئنه بأنني عراقية وتميمية، وأولاد عمي موزعون على كل أرض العرب، وفيهم السني وفيهم الشيعي، وأنا مزيج من هذا وذاك، فترفقوا بالعراق سادتي، حتى لا تخسروه.

* كاتبة عراقية