أنت جمعة، أنا سيدك

TT

لا أدري كيف ومتى جاءت الأنظمة العربية باللغة الاستعبادية. ولا من اين. ليس من اللغة الشيوعية، كما كنت اعتقد. ولا حتى من تعابير الثورة الفرنسية. فقد حاولت عبثا العثور على مصادر التوبيخ والاذلال والاهانة في الكتب الصادرة عن تلك المرحلة. إلا انني ادركت مع العمر ان ما كنت اظنه الفاظا عفوية هو في الحقيقة جزء من تعذيب نفسي مدروس ومنظم، الهدف الأول منه تخويف الفرد وتعويده على إلغاء نفسه دون ان يطلب ذلك منه. فالتعابير التي تستخدم في مخاطبة السلطة واهلها تعتمد دائما على التفخيم والتعظيم، بينما يروض الانسان العادي على استخدام التعابير الالغائية للذات: خادمكم المطيع. عبدكم المخلص. فالمواطن ليس اكثر من ذلك على الاطلاق. في حين ان الوزير او الضابط هو «سيدي». وكان أهل الخليج ينادون حكامهم بكنيتهم العائلية ونسب الابن البكر: ابو عبد الله. وابو فهد. وابو عبد العزيز. وعندما جاء الموظفون والمساعدون من المشرق وضعوا للدور والقصور قوانين وتقاليد تفصل بين الفريقين. وقال لي الراحل المفكر خالد الحسن ذات مرة، ساخرا مما جرى: «جئنا الى هنا ووضعنا جداول للمواعيد. واصولا للاستقبال. وألقابا تعظيمية لرجال بسطاء ومحبين. ولم ندرك إلا متأخرين اننا قضينا على تقليد جميل من التقاليد العربية».

عدت قبل ايام الى قراءة رواية «روبنسون كروزو» التي قرأتها طفلا. كنت أريد فقط ان اقارن بين ردة فعلي طفلا وبين طريقتي الآن في قراءة النص نفسه. وفوجئت، غير متوقع، انني اكتشف اصول استخدام اللغة كسلاح للاستعباد. يتذكر كروزو في رواية دانيال ديغو تحطم سفينته على الشاطئ والتقائه محكوما اسود وضع على تلك الجزيرة لكي يموت. يقول: «فهمت عليه في اشياء كثيرة، واشعرته انني مسرور جدا بلقائه. وخلال وقت قصير أخذت اتحدث اليه واعلمه ان يتحدث الي. وأول ما علمته اياه ان اسمه هو فرايداي (جمعة) وهو اليوم الذي انقذت فيه حياته. ثم علمته ان يخاطبني بكلمة سيدي، وقلت له ان هذا هو اسمي. ثم علمته ان يقول نعم ولا. وماذا تعنيان».

اذن، الدرس الأول، انت جمعة وانا سيدك! وفي أواخر ايام الامبراطورية العثمانية افتقرت الجيوش وطاف الجنود يستعطون الرغيف على الأبواب، وكان الجندي يقرع الباب ويقول لصاحب البيت «اعطني قرشا وأنا سيدك». الوضع الاجتماعي لا يغير في اسلوب المخاطبة. ومطبوعات الابتزاز التي توسلت اغنياء العرب وفتات ثرواتهم، استعارت الأسلوب التركي اياه. فالواقف خارج الباب على العتبة سيد، اما الواقف داخله فهد عبد. او جمعة، كما سمى كروزو صاحبه الاسمر على الجزيرة. وجاء الرجل الأبيض فأباد الهنود الحمر وتملك عالمهم وسماه «العالم الجديد» باعتباره امتدادا لعالمهم الأول. وعندما حاولوا الدفاع عن ارضهم وحياتهم قال انهم همجيون جاءوا يعتدون عليه.

وأرسلت بريطانيا الى اوستراليا السجناء والمحكومين، والحاملات بالزنى من ايرلندا. ووجد هؤلاء بشرا هناك فسموهم «الابورجين» وهي كلمة لاتينية استخدمها الرومان لوصف الشعوب التي شردوها. وكلما قرأت يا عزيزي شيئا كلما ايقنت ان الثوريين العرب لم يعتمدوا على القاموس السوفياتي في لغة التحقير. المسألة اعتق من ذلك بكثير.