تقرير الخارجية الأميركية: دفاع عن السامية.. أم تقديس للخطايا الصهيونية؟

TT

اعمل في (العمق) تربح.

وقبل ان يثب الى الذهن مفهوم (السرية)، او غموض الكهانة نسارع فنقول: ان المقصود ـ ها هنا ـ، من جملة (اعمل في العمق تربح): ان الاكتفاء بالنشاط على السطح ـ دون عمق ـ : عمل ضعيف البنية، اعمش الرؤية، هزيل النتائج.. أما السرية فهي مستبعدة، لأننا نتحدث عن (قضية مضاربة)، لا عن خطط عسكرية طبيعتها الكتمان.. ونزيد الامر سفورا فنقول: إن الخطاب العربي الإسلامي الموجه للغرب: تنقصه منظومة من الحجج والمفاهيم والمداخل الثقافية الكامنة في اعماق الغرب وضميره ووجدانه وتصوراته الدفينة. وهي مفاهيم يوظفها الشانئ أو يجعلها (عماد) الحملات المتتابعة على الإسلام والعرب والمسلمين. ولذا ينبغي ان يَقَرَّ في بؤرة الوعي السياسي والإعلامي والثقافي: ان كثيرا من المواقف السياسية والفكرية والإعلامية هناك، إنما تُتخذ بناء على (قناعات تاريخية وثقافية وحضارية).

ومن المداخل النفسية والإعلامية والسياسية التي يدخل منها شانئنا الى (مواطن الإقناع) لدى القوم هناك فيستسيلهم لصالحه: انتفاعا وانتصارا.. ويحرضهم علينا: كيدا واضرارا.. من هذه المداخل (مدخل السامية).

ومناط هذا المقال: حجاج مكثف حول هذه القضية: وكيف تمكّن الشانئ من توظيفها ضدنا، في حين انها من صميم رصيدنا الجغرافي والسلالي واللغوي؟.. في الوقت نفسه: كيف يمكن تصحيح الحقائق المقلوبة، والمفاهيم المحرفة، اضعافا لحجته ـ بالحق ـ وتعزيزا لخطابنا: بالحق ايضا؟.

يدعي الخطاب اليهودي ـ التاريخي والسياسي والاعلامي ـ (ومن الانصاف تبرئة يهود معتدلين من جريرة هذا الاتجاه).. يدعي هذا الخطاب: ان اليهود قوم ساميون، وان غيرهم ليسوا ساميين، وان العرب انفسهم من هؤلاء (الاغيار). ثم يتخذون من هذه المقولة (قاعدة) لدعوى جديدة وهي: ان العرب ـ غير الساميين!! ـ ، يعادون اليهود الساميين على اساس عرقي!.. وقد تجد دعوى معاداة السامية قرائن عنصرية تساعدها او تصدقها في اوروبا ـ مثلا ـ ، من حيث ان الاوروبيين غير ساميين ـ على الارجح ـ، ومن حيث الممارسات الاوروبية التي جرت ضد اليهود في التاريخين: القديم والحديث.

بيد ان هذه الدعوى تغدو (محض كذبة)، اذا ادّعيت ضد العرب. ذلك ان العرب ساميون، في ارومتهم، وتسلسل نسبهم. ولقد اثبت التحقيق التاريخي: ان جزيرة العرب ـ وما حولها ـ كانت هي (موطن) الساميين: منذ البدء. والى اليوم.. ومن المرجحين لهذا التحقيق: باحثون ومؤرخون ومستشرقون غربيون كثر. منهم (شبرنكر) و(سايس)، و(ابرهرد شرادر)، و(دي كويه)، و(هوبرت كرمه)، و(كارل بروكلمان)، و(كينغ)، و(جول ماير)، و(كوك)، و(دتف نلسن)، و(هوكو ونكلر)، و(هومل).

هذا عن الموطن الاول للساميين.. اما عن نسبهم، فان (الكتاب المقدس) ـ وهو عمدة اليهود في التاريخ والنسب ـ يقول لنا ـ تحت عنوان (مولد اسماعيل) ـ : «وقال لها ملاك الرب (قال لهاجر): ها أنت حامل وستلدين ابنا، وتسمينه اسماعيل.. وولدت هاجر لابرام (ابراهيم) ابنا، فسمى ابرام ابنه الذي ولدته هاجر اسماعيل».

واسماعيل ـ جد العرب ـ: سامي. فهو: اسماعيل بن ابراهيم خليل الله، بن تارح ـ وهو آزر ـ ، بن ناحور، بن اشرع، بن ارغو، بن فالغ، بن عابر، بن شالخ، بن ارفخشد بن سام بن نوح.

والدليل الثالث الحاسم في مسألة (ساميّة العرب)، هو: الدليل اللغوي. فعلماء النحو المقارن متفقون على ان اللغة العربية الفصحى هي بلا منازع اقدم صورة حية من اللغة السامية الأم.. ومن هؤلاء العلماء: بروكلمان. ووليم رايت، وادوارد دوروم، وديفيد يللين.

ولسنا من الذين يفاضلون بين الناس على اسس: حامية، او يافثية، او سامية. فحام، ويافث، وسام من صلب رجل واحد هو نوح ـ عليه السلام ـ . فمن الخبل العقلي، ومن فساد المعايير: ان يحدث تفاضل عرقي بين اخوة من نطفة واحدة، ورحم واحد. وانما سام من نوح.. ونوح من آدم.. وآدم من تراب.. صحيح : لسنا من الذين يفاضلون بين الناس على هذه الأسس. بيد انه من اغرب الغرائب. وأفرى الفرى: ان يجترئ احد من الناس على هذا الكوكب على اتهام العرب بمعاداة السامية، أي يتهمهم بمعاداة نسبهم وارومتهم.

نحن ساميون ـ من ثم ـ ، واتهامنا بمعاداة السامية حجة باطلة: لا تصلح لخطاب ثقافي سياسي اعلامي: نزيه ومحترم ومتحضر.

على الرغم من هذه الحقائق التي اثبتها التاريخ، والجغرافيا البشرية، وعلم اللغات: طلعت علينا وزارة الخارجية الامريكية بتقرير صباح الاربعاء الماضي، بعنوان (تقرير معاداة السامية العالمي)، تقول فيه: «ان العرب والمسلمين في اوروبا هم وراء زيادة الكراهية لليهود، ووراء معاداة السامية». وهو تقرير عجيب غريب مريب: صكته الولايات المتحدة وامضته لتحقيق هدف واحد محدد وهو: قيادة حملة عالمية مستمرة لحماية كل من هو يهودي ـ بل كل من هو اسرائيلي صهيوني ـ من النقد والملام، ويدخل في ذلك: نقد المظالم الاسرائيلية، والانتهاكات الصهيونية للقيم الانسانية النبيلة في فلسطين.

وتسبيب معاداة اليهود في اوروبا بمواقف عربية اسلامية تقوم بها الجاليات المسلمة هناك يماثل تسبيب مقتل ابراهام لنكولن بمؤامرة دبرها حفيد ارييل شارون!!

لقد عادى الرومان والفرس الاقدمون: اليهود عداء شديدا فيه من الظلم والفجور ما فيه.. فهل المسلمون هم الذين حرضوا الرومان والفرس الاقدمين على هذا العداء المدمر؟

حين دمر بختنصر ملك بني اسرائيل واخذ عامة اليهود اسرى وعبيدا، لم يكن المسلمون موجودين يومئذ، لان بختنصر قد فعل ما فعل قبل بعثة النبي، وقبل مجيء الاسلام.

وعودي اليهود او كثير منهم في كل من اسبانيا، والمانيا، وروسيا ـ ففي منتصف الالفية الثانية من الميلاد: اضطهد اليهود في اسبانيا وشردوا، ولم ينقذهم من الاضطهاد والتشريد الا لجوؤهم الى المسلمين في المغرب وتركيا.. وبالقطع: لم يكن المسلمون وراء هذه المعاداة والكراهية والاضطهادات، بدليل ان المسلمين انفسهم قد عودوا واضطهدوا في اسبانيا في الحقبة ذاتها.

وامتلأ النازيون كراهية لليهود فاضطهدوهم وعذبوهم بلؤم وخسة. وقد علل هتلر فعلته القبيحة بسببين اولهما: ان يهود المانيا دمروا الاقتصاد الالماني عبر مؤامرة اقتصادية واسعة عام 1929. وثانيهما: ان الحركة الصهيونية جرّت الولايات المتحدة الامريكية الى الحرب العالمية الاولى بقصد إنزال هزيمة ساحقة بألمانيا.. ومهما تكن تعلات النازي، فإنها لا تجيز له ـ قط ـ أن يفعل ما فعل باليهود.. والمهم ـ من قبل ومن بعد ـ: ان المسلمين لم تكن لهم يد في تخطيطات النازي ونظرياته المعادية لليهود: كجنس ذي دين حصين.

وامتلأ الارثوذكس الروس ـ في عهد القياصرة ـ بشحنات معاداة اليهود والسامية ـ والارثوذكس: نصارى، لا مسلمون: امتلأوا بهذه الشحنات المعادية لليهود الى الحد الذي دفع مخططي الحركة الصهيونية الى الاسهام بأوفى الجهود واثقلها في تفجير الثورة البلشفية عام 1917. وهو اسهام موثق بالاسماء والوقائع ـ وموثق بالنتائج والحصائد.. يقول (ونستون تشرشل) في مقال له عام 1920: «ان الشيوعية كونفدرالية شريرة لليهود العالميين الذين قبضوا على الشعب الروسي من شعر رأسه واصبحوا عمليا سادة الامبراطورية الضخمة بلا منازع».. وفي منشورات الكونجرس الامريكي اليهودي تقرأ «لقد صُنِّفت اللاسامية على انها مضادة للثورة الشيوعية. وكانت العقوبات الصارمة التي انزلت بحق مرتكبي افعال لاسامية هي الوسيلة التي صان بها النظام الحالي نفسه».. وفي عام 1931 اجرت وكالة البرق اليهودية مقابلة مع ستالين، قال فيها «لا يمكن للشيوعيين الا ان يكونوا اعداء سافرين للاسامية، اننا نحارب اللاساميين بأقسى ما لدينا من اساليب الاتحاد السوفيتي، ويعاقب النشطاء اللاساميون بالموت حسب القانون». اعتبارا بما سبق، وتوظيفا له، ينبغي التركيز على النقط التالية:

1 ـ لا ندافع عن اخطاء مسلمين ـ في اوروبا او غيرها ـ: يحملهم غضبهم مما تفعله اسرائيل بالفلسطينيين على شتم اليهود كلهم. فالتعميم هنا ظالم. والشتم ليس اسلوبا اسلاميا، ولا خدمة عقلانية لقضايانا. ثم يجب تجريد نقد افعال الظلمة من اليهود، فالامر ليس صراعا بين عرق يهودي وآخر عربي. بل الامر نقد للظلم وانكار له. سواء صدر الظلم من يهودي او مسلم او مسيحي او من لا دين له.

2 ـ غير عقلاني، وغير لائق: ان يكون ابداع الخارجية الامريكية هو (اعادة نشر) ما تقوله المنظمات الصهيونية المتطرفة. فـ(تقديس) مظالم الصهيونيين وخطاياهم ليس في مصلحة اليهود على المدى الطويل، لان هذا التدليس سيجلب على اليهود ما لا قبل لهم بتحمله. ولذلك رفع يهود مرموقون اصواتهم بالتحذير من الاستعلاء اليهودي: المحرم نقده «!!». ومن هؤلاء: اسرائيل شاماك. ونعوم تشومسكي، وبنيامين فريدمان، والفرد بوليلينتال.

3 ـ يتعين (تجديد) الحراك الدبلوماسي والاعلامي: العربي والاسلامي. وركيزة التجديد هي: الاقتناع المستنير القوي بالعمل في صميم العمق الثقافي والفكري والحضاري. فكل عمل دبلوماسي لن ينجح اذا هو جهل او تجاهل هذه المداخل والمفاهيم الا نفسيات الشعوب الغربية وعقلها وضميرها.