السودان: هل ينجح في تطبيق اتفاق السلام؟

TT

ابتهج غالب اهل السودان باتفاق السلام الذي وقع اخيرا في نيفاشا بكينيا ترحيبا بالسلام الذي انتظروه طويلا بعد ان اكتووا بنيران الحروب عقودا. ورحب العالم ايضا بالاتفاق باعتباره قدوة تحتذى لاطفاء بؤر الحروب والخلافات الاكثر تعقيدا في العالم والقارة السمراء بوجه خاص.

ولا ريب ان الاتفاق جهد مقدر في شموليته، وفي مضامينه وتفاصيله، كذلك بالنسبة للاجهزة الرقابية في متابعته والى حد كبير آليات تنفيذه ومع ذلك يبقى التحدي الاكبر هو تنزيله الى ارض الواقع بشفافية ودقة وقدرة ووحدة تشمل كل قوى السودان.

ولعل المأخذ الوحيد والكبير في نفس الوقت هو ان طرفي التفاوض لم يعدلا ميزان قسمة السلطة في مبتدأ الفترة الانتقالية بالنسبة للقوى السياسية الاخرى، حيث قدر لها عشرون في المائة فقط ما يعني انهما بوسعهما ان يعتمدا على هذه الاغلبية المطلقة في كل شيء، في الوزارة وفي المجالس النيابية والاقليمية والخدمة المدنية والمفوضيات العامة. وهذا الاختلال الكبير في ميزان القسمة عجزا عن تبريره، وكل ما صدر عن اهل الحكم هو اعترافهم بأنه تمثيل رمزي تمشيا مع سوابق مماثلة، ومن لم يرضه هذا التمثيل الرمزي فالطريق امامه سالكة في جولة الانتخابات العامة المقبلة بعد النصف الاول من عمر الفترة الانتقالية، وحينئذ تفرز الانتخابات موازين القوى ويعتلي سدة الحكم من تكتب له الاغلبية!

لا شك ان هذا منطق غير سليم وغير صحيح ايضا، وعدم صحته ان السوابق التي اشار الى الاهتداء بها غير مطابقة لما هو عليه الحال الآن. فهناك سابقتان هما الحكم الانتقالي الذي اعقب ثورة اكتوبر 1964، والحكم الانتقالي الذي افرزته انتفاضة ابريل 1985. وفي كلتا الحالتين لم يكن هناك حزب واحد متحكم في السلطة كما هو الحال الآن. وفي الاولى كان التمثيل الحزبي رمزيا والغلبة لجبهة الهيئات ورئيس الوزراء لا لون حزبيا له على الاطلاق، اما في الثانية فلم يكن فيها اي تمثيل حزبي على الاطلاق وكان عمر الفترة الانتقالية سنة واحدة فقط.

من هنا يبدو ان الاستناد الى السوابق غير صحيح، اما منطق من لم يعجبه الالتحاق بالحكم فعليه انتظار الانتخابات فهو منطق لا يعطي تبريرا او تفسيرا لأية قاعدة استند اليها في هذه القسمة، فماضي الانتخابات يؤشر الى ان الجبهة الاسلامية مجتمعة كان مركزها الثالث في حصاد دوائر البرلمان، اما الحركة الشعبية فلم تشارك في اية انتخابات برلمانية سابقة. وكان يمكن ان تؤسس قاعدة التمثيل على نتائج آخر انتخابات برلمانية في الشمال على الاقل وينظر في نسب تمثيل الجنوب في ضوء الانتخابات السابقة مع اعتبار لدور الحركة وفق رؤية يتفق عليها اهل الجنوب في مؤتمر خاص بالجنوبيين.

ويبدو ان شعور الطرفين بعدم عدالة قسمة السلطة، وعدم القدرة على الدفاع عن هذه القسمة امام القوى السياسية الاخرى، هو الذي دفعهما الى التهرب من عقد المؤتمر الدستوري الذي يجمع كل القوى كي يتحول الاتفاق من ثنائي الى قومي، لان كل القوى السياسية مرحبة بالاتفاق في مجمله وراغبة في تبنيه والعمل على تنزيله الى ارض الواقع جنبا الى جنب مع الحكومة والحركة، ومع ذلك فان الجانبين يتهربان من هذه الدعوة للمؤتمر القومي. والحكومة رددت غير مرة على لسان النائب الاول الذي هو بطل الاتفاق، على الصعيد الرسمي، ان هذه الاتفاقية لا يمكن تعديلها الا وفق ضوابط معينة بين الطرفين، ولا يمكن السماح لاية جهة اخرى بتعديلها ! لكن المؤتمر الدستوري اذا اقنع الطرفين بوجوب تعديل بعض بنودها فما الغضاضة في ذلك طالما ان نصوصها ليست جامدة على حد وصفه هو شخصيا، وطالما امر التعديل متروك لهما ؟!

حقا، وصدقا، ان هذا الاتفاق الممتاز والذي يتطلع السودانيون ان يضع نهاية لمأساة حكمهم التي امتدت عبر عقود منذ الاستقلال ما ينبغي ان يترك لثغرة أنصبة الحكم بين الاطراف لتنال من تميزه او تتسبب في انهياره بينما العالم كله يتطلع الى مساعدة السودان وينظر بأمل في ان يحقق من خلف النجاح في تطبيقه نقلة يطفئ بها نيران الحروب والخلافات على امتداد القارة. وبالطبع ان الخشية ليست هي في انصبة الحكم الظالمة في مبتدأ الفترة الانتقالية فحسب، وانما الخشية في ان تكون هذه القسمة بين حزب الحكومة والحركة مدخلا لتأسيس حكم شمولي يؤدي الى وأد الديمقراطية عبر استصدار قوانين تمكنهما من اقصاء الآخرين وجعل الديمقراطية مجرد ديكور تجميلي يغطي هذه الشمولية، عبر البرلمان المعين وكل المؤسسات التي ستعين خلال الاسابيع والاشهر المقبلة وينعكس كل ذلك على الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة.

والاسوأ من ذلك كله ان يؤدي هذا النهم على السلطة الى انهيار السلام الغالي وتبديد هذا الجهد العظيم الذي بذل في هذا الاتفاق التاريخي الذي فصل على نحو مرضٍ لكل اهل السودان والذي يعالج كل المشكلات التي لازمت السودان منذ استقلاله بدون حلول جذرية.

ومثلما نربأ بالطرفين: الحكومة والحركة، من الاستهانة بالقوى السياسية الاخرى والبطر بالنصر بسبب انجاز هذا الاتفاق بما يعرضه للانهيار، نربأ كذلك بالمعارضة ممثلة في كل القوى السياسية شمالية وجنوبية من ان تتخذ من السعي باندفاع نحو ما تعتبره انصبة لها في السلطة ما قد يشرخ وحدة الصف المطلوبة والضرورية لعبور السودان الى بر الامان والاستقرار.

لا بد ان يتذكر الجميع في الحكومة والحركة والمعارضة ان السودان امام امتحان كبير وعسير وما لم ينجح الجميع فيه فان الفشل لن ينعكس دمارا وخرابا على السودان فحسب، انما سيمتد اثر هذا الخراب الى المنطقة بأسرها، وعلى العلاقات العربية الافريقية، وسيسقط هذا الانموذج الذي أخذ العالم اعجابا به وسيرتد التفاؤل في امكانية تعميمه على القارة السمراء احباطا ويأسا مما يشي بانحسار الوضع المتميز الذي كان من الممكن ان يلعبه السودان في القارة بحكم حجمه وموقعه وتنوعه وثرواته.

وحتى لا يخطئ الجميع وهم في قمة الفرح بهذا الاتفاق العظيم يجب ان يتذكروا ان هذا الاتفاق لا يعني شيئا ما لم يطبق بنجاح على ارض الواقع، وان ما ينتظر اهل السودان لتطبيقه لهو حمل ثقيل للغاية. ولعل اقله ما عدده ايان بروك الممثل الخاص للامم المتحدة من عقبات تكفي للتدليل على صعوبات ما ينتظر السودان وهو ما لخصه في: تحقيق سلام دارفور والشرق، والحوار مع الفصائل الجنوبية المسلحة، وعقد مؤتمر قومي جامع، وتوطين نحو ستة ملايين لاجئ ونازح، وازالة الالغام، والعمل من اجل التنمية.

وقطعا ان كل واحدة من هذه النقاط تعتبر في حد ذاتها تحديا لا ينبغي الاستهانة به، بل ربما الفشل في اي منها من شأنه ان يعيد الجميع الى المربع الاول.

ولهذا لا بد ان يتخذ الجميع من موجات الفرح الغامرة الآن دافعا للتوحد والحرص على بلوغ النجاح حتى يكون الجميع على قدر المسؤولية.