أين هي؟!

TT

في مقابلة قديمة مع العالم (ماينوفسكي) قال: دار حديث بيني وبين أحد أمراء القبائل آكلة لحوم البشر، فلما نبأته بخبر الحرب العالمية الأولى بين أهل أوروبا، عجب كيف يستطيع هؤلاء الأوروبيون أن يأكلوا هذه المقادير الهائلة من لحوم البشر، فلما قلت له: ان الأوروبيين لا يأكلون لحوم القتلى من أعدائهم، أجفل ونظر إلي نظرة المستهول وقال: انهم قوم متوحشون، فهم يقتلون لغير غرض مقصود.

حتى إذا كان الغرض مقصودا ـ أو بمعنى اصح (إذا كان القتل مقصودا) ـ فهو في نهاية الأمر أتفه من التفاهة، فلقد تقاتل ملايين البشر، وما زالوا يتقاتلون، وسوف يستمرون بالتقاتل إلى أن تضع الحرب والجنون اوزارهما ـ هذا إذا وضعت.

تقاتل الملايين، ودفن الملايين، وتيتم الملايين، كل ذلك حصل من اجل أن يستأثر احد منهم على حساب الآخر (بشقفة) ارض، أو بسبيكة ذهب، أو بجارية (سكسية)، أو بصولجان ملك، أو بسطور يكتبها التاريخ القذر بأحرف من دم.. وذهب الجميع في نهاية المطاف غذاء غير مستساغ لدود الأرض، ولم تشفع لهم كل فلسفاتهم التي أفرزتها لهم (أمخاخهم) المريضة، ولم تشفع لهم كل مواعظهم الدينية المتوترة والباكية بإفراط رخيص، ولم تشفع لهم حتى عواطفهم الأسرية الحاضنة والخائفة على فلذات أكبادها من البرد والمرض والموت.. كل ذلك (الزخم) الهائل من (العفانة) الإنسانية لم يستطع أن يطهر رئة الإنسان من السم الأسود الحقود، ولم يستطع أن يعلمه أو يربيه أو يجعله (ينخ) صاغرا للذي خلقه وسواه وعدله، مهما ركع، وسجد، ودعا، وتبتل، وتهجد، وقضى الهزيع الأخير من الليل ضارعاً ومنتحباً على نفسه.. فما أكثر المتعصرين لأثوابهم من خشية الكبرياء، وما أكثر الزاهدين بالدنيا من خشية الغرور، وما أكثر (المطقطقين) بخرزات مسابحهم طلبا لنعيم الجنة وحورها العين وغير العين، وما أكثر من حفت أقدامهم من كثرة ما ترددت على الجوامع والمساجد والصوامع ودور العبادة، وما أكثر القائلين لا اله إلا الله، وهم في ذات الوقت (يتضرسون) على جيرانهم، ويفتكون بالمحصنات من بنات إخوانهم، ويشربون الدم الزلال من شرايين أقرانهم بـأكواب من الذهب والفضة والطين، ويلعبون بأرواح المساكين وهم يهزون أوراكهم على رقعة (الشطرنج).. وما أكثر من غزلوا من شعر ذقونهم، ورؤوسهم، وكل المواضع في أجسادهم، وجعلوا منها حبالا تمتد من الأرض إلى السماء، ومع ذلك ما زالت أصواتهم خشنة ونشازا، وجلودهم تمتلئ بالحراشيف والثواليل والدمامل، وحدقات عيونهم لا تتفتح إلا على الظلم والظلام، وصدورهم مكتنزة بالقيء والصديد، وآذانهم بالوقر والصماخ، وكفوفهم بالسكاكين والمخارز، وحياتهم بالجهل والخرافات وإذناب العفاريت.

إن من يأكل لحم عدوه مقتولا، لهو أكثر رحمة وقبولا ممن يأكل لحم أخيه حياً.. كما انه أكثر إنسانية ممن طفح الكيل به من شدة الحماقة والعنت، إلى درجة انه أصبح لا يدري أين هي (القبلة)!!