سيرة نعل

TT

آخر ما وصلني من كتب العام الماضي، مجموعة قصصية لعبد الله الناصر عنوانها «سيرة نعل» ولا بد أن نقول فورا ونعم السيرة، فهذا النعل، كما يبدو، من سيرته معزز مبجل مكرم، والا لما قال عنه صاحبه مادحا:

أيا نعليَ الأغلى فديتك من نعل

مكانك فوق الرأس ليس على رجلي

إن كل مآثر ذلك الحذاء الذي دفعوا لصاحبه سيارة ومئة ألف ريال ثمنا له، انه داس ذات يوم دون خوف، على بساط أحد الوجهاء المهابين، الذين لا يدوس لهم أحد على طرف أو بساط، ومنذ ذلك اليوم علت مكانته في عيون الناس وصاروا يتسابقون للحصول عليه من صاحبه الفقير المعتر، مع أنه حسب وصف الكاتب، لا يختلف كثيرا عن حذاء أبي القاسم الطنبوري، من كثرة الرقع والفتق والاصلاح. ولا شك أن الكاتب السعودي عبد الله الناصر في هذه القصة وغيرها، يراهن على ذكاء القارئ، وهذا ما يفعله كل الكتاب الذين يتوسلون الأسلوب الرمزي طريقة، لإيصال أفكارهم في مجتمعات لم تألف قبل هذا الجيل الأساليب الفنية الحديثة، وكانت وما تزال تضيق بحرية التعبير.

الثيمة ذاتها التي تومي أكثر مما تفصح سنجدها في قصة «بنك الريح» التي تحكي عن ابن خادمة تعيش هي وابناؤها على فتات الموائد، وذات يوم يجد ابنها ورقة بنكية كبيرة القيمة يبثها أشجانه وأحزانه قبل ان يدخل معها لعبة عبثية، ويبدأ رغم حاجته لها بإطلاقها ثم اللحاق بها الى أن تبتلعها الريح، وتطير بها الى جهة مجهولة تاركة له الفقر والعوز والقهر من عدم المساواة الاجتماعية التي تجعله وأمه يتعبان ويشقيان، ليجني غيرهما دون جهد الارباح والفوائد. وقبل أن نغلط ونظن من كثرة مشاكلنا السياسية والاجتماعية، ان القصص الرمزي غرضه الموضوعي الوحيد، توصيل المعنى بطريقة مواربة من فوق رأس الرقيب لنتذكر ان الأسلوب الرمزي من أنضج وأرقى أساليب الكتابة، ولا يتقنه الا كل كاتب متمكن من أدواته وموضوعاته، وبالدرجة الأولى من لغته، التي هي السلاح الأمضى في معمعة الكتابة، وبها وعليها يتوقف فشل كل كويتب هجين أو نجاح كل كاتب أصيل.

ان قصص عبد الله الناصر على رمزيتها مليئة بالحنين الى زمن جميل يتسرب من بين أصابعنا، دون أن نستطيع استعادته، والى أمكنة أحببناها تكاد تختفي لتأخذ معها أحلامنا ورصيدنا المتبقي من فرح الطفولة. والرائد العالمي الأمثل لهذا النوع الشفاف من الكتابة، كما هو معروف، الكاتب الفرنسي مارسيل بروست في استعاداته الزمانية والمكانية «البحث عن الزمن المفقود»، التي لا تعجب بالضرورة الجميع، فهذا النوع من الكتاب يقسم الناس الى فريقين متناقضين أحدهما يحبه حتى الثمالة، والآخر يجده مضجرا مملا لأن الكتابة الرمزية والاستعادية توغل في الوصف والتشبيه، لتصل الى أدق التفاصيل النفسية والمكانية والزمانية، التي تصنع المشهد القصصي.

ولعل طفولة عبد الله الناصر في الدرعية في قلب نجد، هي التي جعلت الصحراء وواحات النخيل مشهده المفضل والموسيقى الخلفية التي ستسمعها وتكاد تلمسها في معظم القصص، فهذا كاتب مليء بالحنين لوادي حنيفة ومسايل الماء والمزن والخزامى رمز الطبيعة الفواح، التي تعطر وجه الكون لمدة اسبوعين مطلع كل ربيع، ثم تختفي تاركة خلفها وعدا ثمينا بعبيرمتجدد لا محالة يأتي.

[email protected]