وجوه أخرى للحب

TT

أثيرت زوابع كثيرة بسبب الاحتفال بعيد الحب «فالنتين»، وقد تساءلت بيني وبين نفسي، وأنا أتابع اللغط الحاصل هنا وهناك، هل الوردة الحمراء القانية، المرفق بها بطاقة كتبت عليها عبارات ملتهبة، تجسيد للحب في أبسط صوره؟! هل الناس بحاجة ليوم خاص بالحب، لكي يعلنوا عن عواطفهم، وينقلوا ذبذباتها الحارة على الورق لمن يحملون لهم مشاعر غزيرة في قلوبهم؟! لماذا هذا الاقبال الشره من الناس على الاحتفاء بيوم الحب، حتى لو كان يمثل رمزاً مخالفا لعقائدهم، ومناقضاً لعاداتهم؟!، هل هو الحنين لعواطف الأمس الجميل، التي أخمدتها دورة الأيام؟! هل هو الشبق لفطرية المشاعر؟! أم انها محاولات يائسة لاعادة النبض للقلوب العليلة التي ترقد في غرف الانعاش، بعد ان دهستها عجلات الزمن بترسانته القاتلة؟!، هل أدت بالفعل جرارات المدنية والتقدم، إلى اكتساح مساحات واسعة من فطرية الانسان، وبات كالآلة الصماء لا يلتفت لخفقات مشاعره؟! اين تكمن الاسباب؟! هل هي دعوة مبطنة للسلام، بعد ان دكت الحروب آدمية الانسان؟!، وهل العنف الدائر اليوم في كل مجتمعات الدنيا، يعود حقيقة الى نضوب الاحاسيس في أعماق البشر؟! هل سيطرة الأنا على الذات، أدت الى ارتفاع نسب الطلاق، وضعف الرباط الأسري كنتيجة حتمية لهذا التفكك، يقال ان العنف يمثل الوجه الآخر للقهر، وان القهر يبني سداً منيعاً أمام تدفق المشاعر، مما يباعد أفراد المجتمع عن بعضهم البعض، ويجعلهم يدورون في حلقة فارغة اسمها هم الذات، وان هذا الشبق المحموم للاحتفاء بعيد الحب، إنما هو في حقيقته متنفس وقتي من الضغوط الحياتية، ومهرب لحظي من الخيبات المتواصلة، وبحث عن الاحاسيس الصادقة التي لم يعد لها وجود في عالم تحكمه المادة والمصالح، حيث غدا الحب مثل الرصاصة الفارغة التي لو أطلقها فرد على الملأ، لحدجوه بنظرة مستهترة، وأداروا ظهورهم له هازئين من سذاجة هذا المخلوق القادم من العصر الحجري الذي لم يستوعب حركة الزمن من حوله!!، بالاضافة الى الانحطاط الاخلاقي الذي زعزع موروثات المجتمعات، وأفرز افرادا تفتت أواصر الألفة بينهم، وشهد هذا العصر صوراً مأساوية عن انعدام الحس الانساني، وضياع الانتماء الاجتماعي، ودفع الناس الى التشبت بأوهام الحب المفقود، هذا الانتماء الغائب انعكس على جوهر العلاقة بين الرجل والمرأة، والآباء بأبنائهم، وأضحت الصلة بين الجميع تقوم على عنصر القوة، الذي يلوح بها مالكها في وجه من يرفع راية العصيان، حتى أضحى هذا الزمن مصابا بالصقيع، وبهتت الصلات الحميمة بين الأهل والمعارف، وارتفعت الصيحات، الكل يندد بالغبن الذي يعيش به، ويشكو من الصدمات النفسية، نتيجة الهزة الاجتماعية التي قلبت معايير الواقع الى النقيض.

السؤال الذي خطر لي: اذا كان القهر الاجتماعي يفرز عنفاً، لماذا تتفاقم حوادث العنف في العالم المتحضر؟!، لماذا تبلدت مشاعر أفرادها؟! في بلد كالسويد ترتفع حالات الانتحار، على الرغم من رفاهية شعبها، وفي اليابان انشئت مراكز يلجأ اليه الأفراد الراغبون بالافضاء بمشاكلهم، في زمن أصبح الجميع لا وقت لديه لسماع أوجاع غيره. وبات الأبناء يضيقون بآبائهم في الكبر، حتى غدت ملاجئ العجزة تغصُّ بالآلاف منهم، وأخذت مؤسسة الزواج تتقلص في الدول المتحضرة، حتى المجتمعات العربية المحافظة صارت تتخللها أفعال عدوانية بعيدة عن طبائعها التي جبلت عليها!!، كل هذا بسبب جفاف تربة العواطف، وتربع عرش المادة على أفئدة البشر، وانحسار الروحانيات التي تضفي على النفوس شعاعاً من الطمأنينة والسكينة، وانسياق البشر خلف متعهم الحسية، والتلهي في قطف أكبر قدر من مباهج الحياة، والاستهتار بقيمة الانسان، وبروز نبرة الأنانية على اعتبار أنها الطريق الأضمن للوصول لأرض الأحلام. كل المشاهد تعبر عن واقع مؤلم، الرجل صار مقوس الظهر، زائغ العينين، حائراً في توفير قوت أولاده، وقد تنهار مقاومته ويهرب من مسؤولياته صابا جام غضبه على من حوله، وتنعكس تلقائياً على عواطفه، ويضن بلحظات صفاء يقضيها مع أسرته، كون فاقد الشيء لا يعطيه!!. والمرأة أضحت شرهة في الشراء، فقد وقعت ضحية إغراءات الاعلانات المكثفة، التي تبث ليلا نهارا على شاشات التلفاز، حتى أصبحت شغل المرأة الشاغل، ووسط هذه التيارات المتصارعة ضاع الشباب، كونه جاء في زمن تكسرت نصال آماله على صخور واقع مر، واستغلت الضمائر الميتة عيوب الزمن الحالي لتبني أرصدة ثرواتها من جماجم الأجيال الصاعدة، وشجعت الشباب على الانغماس في المخدرات، حتى خدرت اعصابه، وقضت على ما بقي من مقاومته، وساهمت الأغاني والمسلسلات والأفلام التي تتحدث عن الغدر والخيانة في الاجهاز على القيم العليا، من خلال هذه الرسائل المشفرة، التي تؤكد ان سطوة المال هي أداة السيطرة على منافذ العالم.

هل هذا يعني فقدان الأمل في الغد؟، القنوط شيء منفر ينبعث من النفوس الضعيفة، ويجب على المرء ان يتفاءل بالغد مهما كانت الرياح تنذر بالعواصف، لقد قدم أميركي إحدى كليتيه لزوجته معلقا على انه يريد ان تظل زوجته في صحة جيدة، حتى يستمتعا بحياتهما معا. وعلى النقيض، قرر شخص من استراليا الزواج من تلفازه، وقام بوضع خاتم الزواج بغرفة الجلوس، بعد ان بارك الكاهن هذا الزواج، وقد برر الرجل فعلته بأن التلفاز أفضل رفيق قابله في حياته، كونه لا يقوم بعمل شجارات يومية معه مثل الزوجة!!، صور غريبة تجعل المرء يغرق في الضحك الممزوج بعلقم الوجع.

الإنسان لا يحتاج لعيد «فالنتين» لكي يعبر عن مشاعره العميقة تجاه أحبائه وأصدقائه، البشر بحاجة للحب في كل لحظة من حياتهم لإشاعة الرحمة في محيط الأسرة، وبين الأفراد داخل المجتمعات. ولولا الحب لما تسامت البشرية عن الضغائن. ولولا الحب لما تغاضى البشر عن هفوات بعضهم، ولولا الحب لما كان هناك شيء اسمه التسامح والغفران. الحب يعلم قيمة العطاء، محققا لصاحبه متعة نبيلة توازي متعة الأخذ. ليت البشر جميعهم يدركون ان للحب وجوها أخرى.