لغة الضاد في أفق العولمة: أي مصير؟

TT

* العربية أصبحت لغة الأبواب الموصدة والمستقبل المجهول دقت أجراس الألفية الثالثة، وكل الأنظار مشدوهة الى طلعة عهد جديد، تنفخ سماؤه أرواح أمل صهباء، على نفوس يائسة ممتقعة، لحظة تاريخية اهتز لها العالم، في هذه اللحظة بالذات تبدد كل احساس لدي بطعم الانتقال، وأحسست كأنني أحتسي أقداح خيبة وخذلان، وما أن غنت لنا المذيعة بوجهها البشوش لتعلن بداية الاحتفال حتى تساءلت: لماذا الاحتفال؟ ولماذا نحن؟ فلنتنازل عن هذا العرش الاحتفالي القرني لمن يعيش هذا البرزخ المدجج بعطر التغيير، لمن يحس بتلك الطفرة الانتقالية، لمن يسعى لكسب رهان الفعل الحضاري، أما نحن فلنكتف بتغيير الأرقام في الروزنامة، ولنمض كطاووس عصره، مزهوين بألوان طيف يلوح في أفق ماض سحيق ولنهرول برباطة جأش إلى حلبة الصراع الفكري، مهللين بغبطة ذلك الانتصار الهلامي لآراء محنطة في «توابيت» وبثوابت عقيمة ومتحجرة ولنطأطئ رؤوسنا «لآخر» يلتهم مقوماتنا، يجاهد لمحو هويتنا منذ الصليبيين والتتار الى الاستعمار الأوروبي والاحتلال الاستيطاني الصهيوني، ويسعى لتذويب كياننا الحضاري العربي ضمن أنساق فكرية هجينة وأنماط تغريبية تجعلنا نعيش حياة ثانوية لا تنتمي إلينا في حالة استلاب أو انفصال عن الذات حسب هيجل، مع الإحساس بأن هناك قوى أخرى تزيحنا، تغتصب كينونتنا الحقيقية، تجعلنا نعيش حالة اغتراب حاد داخل أوطاننا، ولنكتف، نحن، بالخضوع لسطوة عولمة تنهشنا في حالة تشنج وارتجال و تلوث وفوضى بل ارتزاق.

لغة الأبواب الموصدة نحن لسنا ضد الانفتاح، بل على العكس نحن مع كل تفاعل مع العطاءات البناءة، دونما إحساس بالضعف والدونية، مع كل «جدلية» تخصب الفكر العربي وتنميه، مع كل انفتاح يجعلنا أسياد الموقف، نمسك خيوطه كما نشاء لا كما يشاءون، وضد كل انسلاخ وزيغ عما هو أصيل، عن قلب الهوية ومهجتها: لغة الفرقان، لغة الضاد التي ظلت منذ زمن تحمل ثقلا سيزيفيا من العلوم والآداب والفكر طوال تسعة قرون من الدهر، اللغة الوحيدة التي كان يمتلكها ابن رشد، فاستطاع بواستطها أن يخترق الآفاق، هذه اللغة التي للأسف نعتت بالضعف والتقهقر وعدم صلاحيتها كـ«موضة العصر»، واعتبرت شبهة يتفاداها طلاب العلم وهم على أبواب الجامعة، باعتبارها، في نظرهم، لغة الأبواب الموصدة بخلاف اللغات الاخرى، لغات المستقبل والأبواب المشرعة على مصاريعها، مع العلم أن العيب، هنا، ليس في اللغة، في حـد ذاتها، بل في أهلها الذين لم يكونوا حضنا رؤوما لها، يراعونها ويطورونها، بل أعداء يعزلونها، يهجنون كل ما هو أصيل فيها، أبناء بعثات أجنبية يزدرونها، أولياء أمور ينساقون معهم في لعبة التمويه والتضليل هاته، أبناء جاليات يحرقون غاباتها الخضراء لتغدو أرضا مواتا بلا حياة، وجاء قرار وزارة التربية الفرنسية بتاريخ 7/10/2000 ليقطع آخر شريان يربطهم بوطنهم الأم، حيث قررت هذه الوزارة أن تمتحن العربية باللغة الفرنســــــية، كما أنها تعمل على بعث بعض اللهجات المحلية وتشجيع انتشارها (الشامية، الأمازيغية، القبايلية) لمناوئة وخلق ضرات للغة الأم، مع أن هذه اللهجات، وخصوصا الامازيغية، ظلت «بجانب اللغة العربية، كالعامية بجانب الفصحى اليوم، فلقد ظلت أختا لها توادها، لا ضرة لها تضارها»، على حد تعبير الشيخ محمد المبارك الميلي في كتابه «تاريخ الجزائر في القديم والحديث». والفرنسيون خصوصا، في ممارساتهم الشيطانية هاته لا يؤسسون لـ«تعددية لغوية»، خارج لغتهم، ولكن يراهنون، بكل مكر وخبث، على أبعاد سياسية واستعمارية، كما سبق لهم أن حاولوا ذلك إبان استعمارهم لبعض بلدان شمال أفريقيا (إعلان «الظهير البربري» الشهير بالمغرب الأقصى، والذي يرمي الى التمييز بين المغاربة الناطقين منهم بالأمازيغيين وأولئك الناطقين باللغة العربية).

أن تكون المؤامرة محبوكة من فرنسيين يستهدفون ردم هويتنا ووحدتنا ودس سم زعاف في كؤوس لغتنا الأم ،لا بأس، فهم أجانب وأغراب عن لغتنا، ولأشد ما يعرف عنهم تعصبهم وتحمسهم للغتهم الفرنسية وإطلاقهم لصرخات الاستنفار ضد كل مفردة دخيلة حسب ما يصرح به هنري كوبار «إذا كانت اللغة الفرنسية قد رغبت باسم الكونية الثقافية في أن تقصي اللغة البروطونية واللغة الأوكسيطانية واللغة الفلامانية واللغة الألزاسية واللغة الباسكية أو اللغة الكورسيكية، إذن فباسم كونية أكثر كونية سيكون من حق اللغة الانجليزية أن تقصي اللغة الفرنسية»، وكذا مطالبتهم بمقاطعة الأفلام الأمريكية التي تهدد لغتهم وحياتهم الفرنسية ـ بالرغم من أنني أشك في أنهم يستطيعون مقاطعة «الماكدونالدز والهامبورغر والحلم الأمريكي»، واتخاذهم من لغتهم وطنا لهم حين يقول ألبير كامي «نعم لي وطن: إنه اللغة الفرنسية».

لغة القرية الصغيرة وأن تأتي هذه المؤامرة من طرف أمريكيين، فحججهم معروفة وقوية، أولاها أن اللغة الانجليزية لغة «القرية الصغيرة»، لغة العلم والمعرفة والاتصال، اللغة التي ألحقت الخراب بألفي لغة من لغات الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين، ولغة العولمة التي تتطلب منا إعادة النظر في الخريطة الثقافية واللغوية ولملمة فوضانا وصناعة «تشريع لغوي» يؤهلنا لمواجهة هذه العولمة التي غدت شرا لا بد منه. لكن أن تكون هذه المؤامرة في عقر دارنا فهذا ما لا نقبله ونشجبه بقوة أصلد من طود عتيد، حـــــــين تغض الحكومات العربية الطرف عــــن وضع لغوي فاسد وتنصرف الى اصلاحات تضعها ضمن أولوياتها كإصلاح الاقتصاد والادارة والتعليم، سعيا منها للانتقال الى الحداثة، وأية حداثة هاته في ظل «تلفيق لغوي»؟ حين تتبنى المؤسسات العامة والخاصة والأماكن العمومية، والمقاهي والمطاعم، لغات أجنبية تحت مظلة خطابات وإعلانات دعائية ملأت الدنيا وشغلت الناس، يرددها الآخر في المحافل الثقافية والفكرية وغدت كأقدار تاريخية تطوقنا، كعولمة وعالمية وكوكبية وفرانكفونية ومثاقفة إنسانية، والتي تبدي في الواجهة دعوتها الوهمية الى حوار الحضارات، ولكنها في الحقيقة تخفي في ثناياها أهـــدافا آيديولوجية محضة ...

وعلى العموم «سبق السيف العذل» وعوض أن ندعو على سبيل السرعة لقمم طارئة لتصعيد سجال نعلن فيه كوننا مع أو ضد هذه الخطابات التي هيمنت على الساحة الفكرية العالمية، الأحرى بنا أن نحصن ذواتنا بمضادات حيوية ونسعى لخلق حوار حضاري متوازن ومتكافئ، ننصت، نتعلم، نحلل، ننتج، نتحاور، ونبتعد ما أمكن عن فيروس «نستهلك» الذي استشرى في أجسادنا بشكل خطيــر.

فلا لكل عولمة تستأسد وتستوحش لتلتهم مقوماتنا، خصوصيتنا، هويتنا ولغتنا بالأساس، ولا لكل تصارع لغوي يقصد الاقصاء والتهميش لا التفاعل، ونعم لكل ترشيد حكومي للوضع اللغوي الفاسد، نعم لكل «سلم لغوي» بتعبير الكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي، سلم يولد التعايش والتطور لا التقاعس والتكلس الفكري، نعم لكل علاقة لغوية قوامها الاحترام والأخذ والعطاء، ولكل لغة دخيلة تخدم لغتنا العربية لا لكي تحل محلها، ونعم، أيضا، لفك العزلة عن اللغة العربية ومعانقتها للمدار اليومي والمعرفي والمؤسساتي، ضمانا لكل تطور واستمرارية ووقوفها بين الفينة والأخرى لحظة تأملية للكشف عما يعتريها من نقص وثغرات، سعيا لخلق أدوات تحديثها وإنعاشها.

ونعم لهامة لغوية عربية تتجاوز قشرة السماء، تنافس اللغات الحية العالمية تراعيها مجامع عربية في المشرق وفي المغرب، تخلصها من الشوائب التي تعلق بها، وإن كانت حكوماتنا العربية ما زالت تمشي ملتفة بغلائل الضباب حسب الصورة التي رسمها لنا الروائي تولستوي، فلم تتضح لها الرؤية ولم تصل بعد لنسج صوت عربي موحد لدعم الانتفاضة الفلسطينية وترميم مواطن الجرح العربي، فلنبدأ، على الأقل، بوحدة اللغة في انتظار غودو.

* كاتبة مغربية