لوكربي: بين مطرقة السياسة والصحافة.. وسندان القضاء

TT

لا اعتقد اني اتجاوز حدود الحذر والحرص اذا تجرأت وقلت ان الحكم الذي اصدرته المحكمة الاسكتلندية المنعقدة بمعسكر زايست بهولندا يوم الأربعاء 31 يناير (كانون الثاني) الماضي ضد المواطن الليبي عبد الباسط محمد المقرحي لم يكن مفاجأة غير متوقعة لليبيا ـ قيادة وشعبا ـ فقط، ولا ابالغ ان قلت انها جاءت مفاجأة لاساتذة وخبراء القانون الاسكتلندي، بل ايضا كانت مفاجأة غير متوقعة للحكومتين الأميركية والبريطانية ولأقارب وأهالي الضحايا، وهدية ثمينة جدا للصحافة البريطانية التي احتفت به بشكل هستيري مشرعة ابواب الفرصة أمام الأقلام المناوئة لليبيا والعرب كي تصول وتجول على صفحات «التابلويد» والصحف الرئيسية.

فمنذ انفجار طائرة «البان آم» (الرحلة 103) فوق سماء قرية لوكربي في ديسمبر (كانون الأول) 1988 تابعت الصحافة البريطانية بحرص شديد، وعناية فائقة، ورصد اقل ما يقال عنه انه مجهري، مجريات قضية لوكربي، خاصة بعد توريط ليبيا بها، وحين انعقدت المحكمة الاسكتلندية بكامب زايست حرصت الصحافة البريطانية على تقديم تغطية شاملة لها مرفوقة بتحليلات الخبراء القانونيين والمعلقين السياسيين، ولم يكن صعبا على المراقب المحايد رصد التوجس الذي بدأ يغلف التقارير الصحافية أو الشكوك التي بدأت تطل برأسها في التعليقات والتحليلات بعد الاشهر القليلة الأولى من بدء المحاكمة، ولن ينسى قراء هذه الصحافة مآتم العزاء التي اقامتها هذه الصحف بعد الاخفاق المهين الذي تعرضت له النيابة عبر شاهدها الرئيسي المدعو عبد المجيد جعاكة عميل الاستخبارات المركزية الأميركية.

غير ان حكم القضاة الاسكتلنديين الثلاثة المفاجئ والغريب قلب موازين العدالة وتوقعات المراقبين، والأهم من ذلك انه ضخ دم الحياة في الصحافة البريطانية مجددا كي تنفلت في موجة هستيريا تختلف عن كل سابقاتها.

وبالطبع، تم تجميع حقائق واقع العدالة البريطانية ووضعت في مبرد ثلاجة محكم الأقفال، وصار الطريق مفتوحاً الى التغزل بنظام القضاء البريطاني والعدالة البريطانية وقدرة رجال الأجهزة الأمنية البريطانية ومهارتهم في كشف وتقديم اعقد الأدلة في أكثر الجرائم تعقيداً.

وحظيت الأصوات التي عبرت عن تشككها في الحكم، أو حاولت لفت الاهتمام الى مثالب العدالة البريطانية وسوابقها المشينة بمساحات صغيرة بدت أشبه بجزر نائية، والحقيقة ان الصحافة البريطانية لم تكن في حاجة لأحد لتذكيرها بمأساة مثل مجموعة بيرمنغهام، التي ضمت ستة مواطنين ايرلنديين ابرياء من شمال ايرلندا جميعهم اتهموا ظلماً بتدبير وتنفيذ انفجارات حدثت في مدينة بيرمنغهام عام 1974، وحكم عليهم بالسجن المؤبد. وبعد عقد ونصف عقد من الزمان تبين للرأي العام البريطاني بالأدلة والبراهين براءة هؤلاء. وتبين له ايضاً مدى قذارة الاجهزة الأمنية التي تتولى حراسة أمنه وأمن بلاده.

ولم يكن ممكنا ايضاً لأحد ان يذكر الصحافة البريطانية بالمواطن السيئ الحظ «جوزيبي كونلون» الذي قبض عليه ضمن جماعة جيلفورد الأربعة عام 1975 واتهم بالاشتراك بتدبير وتنفيذ انفجارات في حانتين بمنطقة جيلفورد وولش، وحكمت المحكمة عليه بالسجن المؤبد ومات في السجن عام 1980. في بداية التسعينات من القرن الماضي، حينما قضت محكمة استئناف بنقض الحكم الصادر ضد هذه المجموعة واطلاق سراح السجناء الثلاثة المتبقين، عرف الرأي العام البريطاني والعالمي ان السيد كونلون كان رجلا مسناً ومريضاً، ولا علاقة له البتة بالجيش الجمهوري الآيرلندي، وكان يقيم بمدينة بلفاست، سمع بإلقاء القبض على ابنه البالغ من العمر سبعة عشر عاماً من قبل اجهزة الأمن فأخذ نفسه وذهب للبحث والاستفسار عنه لا اكثر ولا أقل. فوجد نفسه في قبضة وحدة مكافحة الارهاب متهماً بالارهاب مع ابنه.

وتناسي فجيعة كهذه لا يعني ان الصحافة البريطانية مصابة بداء النسيان أو ضعف الذاكرة أو شيء من هذا القبيل، ذاكرة الصحافة البريطانية تتميز بأنها انتقائية بمعنى انها لا تريد لأحد ان يذكرها بشيء لأنها تتذكر ما تشاء حينما تشاء وتتناسى ما تشاء ساعة تشاء.

لهذه الأسباب يصير من السهل عليها ارتكاب جريمة في وضح النهار مثل امتصاص الدم بالكامل من جسد حقيقة ما. والتالي فإن صحافة كهذه رغم ادعاءاتها، مستعدة دوماً لأن تدير لها ظهرها للحقيقة كأن تتجاهل عمداً التركيز على انتقادات البروفسور روبرت بلاك الخبير في القانون الاسكتلندي الذي عمل قاضيا بالمحاكم الاسكتلندية ثلاث عشرة سنة أو الاشارة الى المثالب العديدة التي ميزت شهادات الشهود والمآخذ القانونية على هؤلاء الشهود انفسهم. إن الصحافة البريطانية على سبيل المثال في غمرة هستيريتها تتقصد الا تذكر القراء بأن الدكتور توماس هيز احد اعضاء فريق العلماء الذين اعتمد قضاة محكمة لوكربي على تقاريرهم في تحديد هوية بعض الشظايا التي عثر عليها في حطام طائرة كان شاهداً رئيسياً في قضية عائلة ماكجواير في الثمانينات التي أدينت ظلماً وبرئت ساحتها في ما بعد ، وان عضواً آخر بنفس الفريق العلمي هو توم تورمان كان قد أقيل من منصبه وأبعد عن وظيفته لأن زميلاً له اتهمه بـ«فبركة الأدلة».

ويصير من السهل عليها ايضا اغفال واسقاط حقيقة ان عبد المجيد جعاكة لم يتذكر شهادته ضد المقرحي وزميله فحيمة الا بعد ان هددته وكالة الاستخبارات المركزية بوقف مخصصاته المالية.

والصحافة البريطانية لا تتريث لحظة في التصريح بأن ادانة المقرحي هي ادانة للعقيد القذافي، لأنه قائد النظام الليبي في الوقت الذي تمتلئ فيه صفحاتها بالتقارير والتحقيقات التي تؤكد أن ضلوع جهاز المخابرات الخارجية البريطانية «إم آي 6» في عملية اغتيال القائد القذافي الفاشلة التي افصح عنها عميل جهاز المخابرات «إم آي 5» ديفيد شايلر، تمت من دون علم أو موافقة الحكومة البريطانية! الغريب انه بعد اسبوع واحد فقط على صدور حكم الادانة ضد المقرحي اطلع المواطنون البريطانيون، ربما للمرة الألف، على فداحة الخلل في نظامهم القضائي. ففي الثامن من الشهر الجاري نشرت الصحف اخبار الفضيحة التي لا تختلف عن العشرات غيرها من فضائح العدالة البريطانية عبر السنوات الماضية، وتتلخص في قيام محكمة استئناف بنقض الحكم القضائي الصادر ضد المواطن ستيفن دواننج والقاضي بحكمه بالسجن المؤبد. وبعد 27 سنة سجنا قررت المحكمة السماح للسيد دواننج بمغادرة السجن بكفالة على ان تعقد محكمة استئناف للنظر في القضية من جديد بحلول شهر مايو (ايار). ومثل غيرها من الفضائح، كان رجال البوليس هم ابطال هذه المهزلة حيث لفقوا التهمة للمسكين حينما كان يبلغ من العمر 17 سنة وبذكاء صبي لا يتجاوز الحادية عشرة من عمره. وكانت الفضيحة من الثقل بحيث ان رئيس الوزراء توني بلير لم يجد سوى اعلان سروره امام اعضاء مجلس العموم بخروج السيد دواننج من السجن ونقض الحكم الصادر ضده، في حين ان صحيفة «ديلي اكسبريس» طالبت في افتتاحية لها بالتحقيق في الكيفية التي حدث بها هذا الظلم الشنيع ضد المسكين دواننج حتى لا يتكرر هذا الكابوس ثانية.

في مقالة نشرت بصحيفة «صنداي تاميز» في 11/2/2001 بعنوان «البوليس والعدالة والحقيقة» يؤكد ألستر بالمر ان الضغوط الشديدة التي يتعرض لها رجال البوليس في القضايا التي تحظى باهتمام ومتابعة الرأي العام هي السبب وراء هذه الأخطاء المهينة للعدالة. وحسب رأيه فإن المطالبة الشعبية بإيجاد الجناة الفاعلين للجرائم الفظيعة تدفع الأجهزة الأمنية المعنية الى اعتقال شخص ما واتهامه. ويضيف قائلا «ان تسليط الأضواء الاعلامية على رئيس فريق التحقيق في جريمة ما تجعل منه نجما تلفزيونياً وتخلق المتابعة والرصد الاعلامي توقعات لدى الرأي العام لا يشبعها الا شيء واحد هو قيام البوليس باعتقال واتهام شخص ما».

وينقل بالمر اعترافاً لضابط أمني كبير من الذين عملوا في قضايا جنائية كهذه، حيث يقول الضابط «تشعر انك مجبر على ايجاد دليل، أو عليك ايجاده حتى حينما لا يكون موجودا حقيقة، لكنك مقتنع بقدرتك على عدم الاصغاء لصوت الشك الصغير الذي يدعوك دوماً الى عدم ارتكاب خطأ تندم عليه في ما بعد، لكن في تحقيق جنائي يكلف الملايين من الجنيهات فإن عدم خروجك بنتيجة مرضية ليس خياراً موضوعاً امامك).

ويؤكد الكاتب أن الجرائم الفظيعة لا يتم الوصول الى فاعليها الا في الأفلام السينمائية أما في الواقع فإنها تظل دون حل. ويشير ايضاً الى ان الضغوط التي يعاني منها رجال الأمن تنتقل بالعدوى الى رجال النيابة، ويذكر القراء بالسنوات الماضية التي تعرض فيها رجال النيابة لانتقادات حادة من اجهزة البوليس واتهامها بأنها تتساهل في التعامل مع المجرمين وتفتقد للحزم، وان جبنها وصل الى درجة افلات المجرمين من حكم العدالة.

غير ان ألستر بالمر ينهي مقالته بالاصرار على تذكير القارئ بأن سبب الممارسات اللاقانونية لرجال الأمن والشرطة لا يعود الى خراب ضمائرهم بل الى حماسهم الزائد على الحاجة وعزمهم على الوصول الى نتيجة، حتى وان كانت هذه النتيجة تعني تسديد طعنة نجلاء الى قلب العدالة والحقيقة، وحتى وان كانت هذه النتيجة لا تعني سوى اضافة رقم أو ارقام اخرى الى القائمة الطويلة لضحايا العدالة البريطانية.

وثمن كهذا لا يساوي شيئا لقاء الحفاظ على سمعة الاجهزة الامنية من جهة والحصول على مكسب سياسي كبير من شأنه تخفيف ثقل ضغوط الرأي العام من جهة أخرى. فلماذا الحزن؟

* أكاديمي عربي يقيم في بريطانيا