رؤى مختلفة لتسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي.. فوارق أساليب مواجهة الاحتلال بين السوريين واللبنانيين والفلسطينيين

TT

في العلاقة التصادمية العربية ـ الإسرائيلية من أجل تسوية وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، نلحظ ثلاث مدارس كفاحية على أرض الواقع، لا نستطيع الانحياز لواحدة منها دون الأخرى، ولا نستطيع ادانة واحدة على حساب أي منها.

والمدارس الكفاحية الثلاث من وجهة نظر أصحابها، تستهدف استعادة الأرض، وعودة الحقوق، وفق المعايير السائدة والخاصة لكل طرف، حيث لا نستطيع فرض اسلوب وعمل وشكل الخيار السياسي الكفاحي لطرف على باقي الاطراف.

فلكل بلد خياره وخصوصيته ومعطياته، ومنه واليه وعلى أساسه، يتصرف ويفعل ويتوسل النتيجة، المتمثلة بزوال الاحتلال وانحساره عن الأرض.

فاللبنانيون مثلهم مثل الشعب السوري، وهم مثل الشعب الفلسطيني، عملوا وما زالوا لتسريع الانسحاب الاسرائيلي، وضمن الظروف الخاصة لكل منهم.

اللبنانيون، واعتماداً على تراث كفاحي هائل من التضحيات والمقاومة المشتركة الفلسطينية اللبنانية التي ورثتها المقاومة الفلسطينية لشعب لبنان في جنوبه ولقواه السياسية الحية، استطاعوا الاستمرار في نهج المقاومة، بل وتطويره حتى حقق مداه واهدافه في زوال الاحتلال وهزيمته عن ارض لبنان وانسحابه المذل يوم الاربعاء 2000/5/24 بعد 25 سنة من النضال والتضحيات والعزيمة، قتل خلالها 1600 اسرائيلي وادت إلى انهيار ما يسمى جيش لبنان الجنوبي.

وهناك التجربة والمدرسة السورية، فالجولان السوري سقط في أيدي قوات الاحتلال عام 1967، ومع ذلك فالجبهة السورية الاسرائيلية ظلت هادئة وباردة عشرات السنين، لا يتسلل منها ما يزعج حراسها على الجانبين، وثمة التزام سوري صارم بعدم تنفيذ أي عمليات مقاومة عبر الحدود توحي باستعداد سوري لخوض كفاح مسلح طويل الامد أو عمليات نوعية تستنزف قوى العدو وتجعل بقاءه على أرض الجولان العربي السوري، مكلفاً.

ولكن... وعلى الرغم من الانضباط العسكري السوري، وعدم الركون لخيار المقاومة في استنزاف قوى العدو واجباره على الاذعان والانسحاب من الجولان، رغم ذلك نشهد مواقف سورية حازمة ثابتة متمسكة ومطالبة بالانسحاب الاسرائيلي الكامل حتى حدود عام 1967، وتعمل سورية اعتماداً على علاقاتها العربية والأوروبية والأميركية، وكذلك مع روسيا والصين، على خلق قوة ضغط دولية مساندة لمطالبها المشروعة، وضاغطة على الاسرائيليين حتى يتجاوبوا مع التطلعات والمصالح السورية.

فعاليات الفلسطينيين الثلاثة من هنا لا نستطيع القول ان التجربة اللبنانية هي وحدها الكفيلة بتحقيق الرغبات والامنيات، فالخيار السوري تحكمه مصالح وظروف تفرض خيار سورية بالانحياز للمفاوضات والنشاط الدبلوماسي وتفعيل قوة ضغط عربية أوروبية أميركية حتى تكون مؤثرة وقادرة على دفع الاسرائيليين للتخلي عن أطماعهم التوسعية غير الشرعية في الجولان.

وفي مقابل التجربتين السورية واللبنانية، حيث تتحدان في الهدف وتختلفان في الأسلوب، تبرز التجربة والمدرسة الفلسطينية كحالة جامعة للتجربتين السورية واللبنانية.

فالوضع الفلسطيني أكثر تعقيداً مما يتطلب وسائل كفاحية خلاقة تجمع بين الصمود والمقاومة على الأرض من جهة والصلابة والحزم والمرونة على طاولة المفاوضات من جهة ثانية.

وقد وافق الفلسطيني من ناحية مبدئية على الحل التدريجي المتعدد المراحل، بدءاً بالانسحاب من غزة واريحا أولاً في مايو (ايار) 1994، وكان الانسحاب الثاني في مدينة جنين في شهر اكتوبر (تشرين الأول) 1995، وتتالت سلسلة الانسحابات الاسرائيلية، من قلقيلية، وطولكرم، ونابلس، ورام اللّه والبيرة، وبيت جالا، وبيت ساحور، وبيت لحم، والجزء الأكبر من مدينة الخليل في 1997/1/15، وكان الانسحاب الأخير من قرى الريف الفلسطيني المحيطة بمدينة جنين وتم ذلك في 1998/11/28م.

حتى جاء ايهود باراك الذي رفض مبدأ التدرج والمرحلية، وطالب بطرح كافة قضايا التفاوض، خصوصاً عناوين المرحلة النهائية، على طاولة المفاوضات، وضرورة التوصل إلى صفقة اتفاق نهائي، بدأت في كامب ديفيد في شهر يوليو (تموز) عام 2000، برئاسة رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات تحت رعاية الرئيس بيل كلينتون، ولكنها لم تصل إلى الاتفاق المرجو، فتم استكمالها في طابا المصرية، بعد انفجار الانتفاضة المميزة على كامل أرض فلسطين المحتلة عام 1967، بل وشملت في بعض المراحل مشاركة من فلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948 وسقوط 13 شهيداً منهم واعتقال 180 مواطناً وتقديم 500 قضية أمام المحاكم.

وقد تميزت مرحلة ما بعد انفجار الانتفاضة والمقاومة والثورة، ضد الاحتلال يوم الخميس 2000/9/28م، بسير المفاوضات عبر محطات وأماكن مختلفة جنباً إلى جنب مع استمرار الكفاح بكل أبعاده الجماهيرية والمؤسسية.

ولذلك تواصلت فعاليات الانتفاضة على الأرض مترافقة مع استمرار المفاوضات على الطاولة، سواء في اجتماعات باريس أو واشنطن أو شرم الشيخ وأخيراً في طابا في 21 من الشهر الماضي، حيث لم تكن خيارات التفاوض معزولة أو مقطوعة عما يجري على أرض التضحيات بمئات من الشهداء وآلاف من الجرحى، خاصة من شبيبة فتح والاجهزة الامنية والعسكرية الرسمية التابعة للسلطة الفلسطينية، مع باقي فصائل المقاومة من حماس والجهاد والشعبية والديمقراطية وغيرهما من الفصائل والقوى السياسية المكافحة.

وقد خلق، بل وفرض المفاوض الفلسطيني خياراته وأساليبه على عدوه سواء أمام متاريس المواجهة الصدامية، أو على طاولة المفاوضات، ولم يفعل واحدة على حساب الأخرى فجاء التلازم ما بين الانتفاضة والمفاوضات لتدعما بعضهما بعضاً في وجه المستعمرين الاسرائيليين، وتحققا تراجعاً ملموساً للاسرائيليين على طاولة المفاوضات.

فقد عمل باراك منذ تسلم رئاسة الحكومة منتصف العام قبل الماضي على تخفيض توقعات الفلسطينيين السياسية في استعادة حقوقهم، مثلما عمل واشترط وقف أعمال «العنف» والانتفاضة والمقاومة، ولكنه فشل في الحالتين، لا بتخفيض مستوى التطلعات المشروعة للفلسطينيين، مثلما لم يتمكن من تخفيض منسوب الفعاليات الميدانية للانتفاضة، حتى يوم سقوطه في 6 فبراير (شباط) الجاري.

وعلى العكس من ذلك فقد قدم باراك أربعة تنازلات أمام المفاوض الفلسطيني في مفاوضات المرحلة النهائية، سواء في مفاوضات كامب ديفيد 2000/7/11 لغاية 2000/7/25 وتم استكمالها في مفاوضات طابا التي بدأت يوم 2001/1/11 واستمرت حتى نهاية الشهر نفسه يناير (كانون الثاني) 2001.

علينا احترام خيارات الفلسطينيين والتنازلات التي قدمها باراك، هي:

1 ـ انهاء وشطب شعار الاسرائيليين الموحد الذي يقول ان القدس الموحدة عاصمة اسرائيل إلى الأبد، حيث وافق باراك من حيث المبدأ على تقسيم القدس، بقوله القدس الشرقية للفلسطينيين والغربية للاسرائيليين.

2 ـ ووافق على عودة بعض اللاجئين إلى المناطق المحتلة عام 1948 شريطة أن يكون هؤلاء من مواليد فلسطين قبل عام 1948، وأن يكون لهم أقارب في (اسرائيل) وان تكون هذه العودة على قاعدة لمّ شمل العائلات وفي نطاق الحل الانساني.

3 ـ وافق على ازالة الجزء الأكبر من المستوطنات عن الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، (وافق على ازالة 60% من المستوطنات).

4 ـ وافق على الانسحاب من 94% من الأرض وتسليم الحدود والمعابر، و3% في نطاق التبادلية (أرض مقابل أرض) و3% بدلاً من الطريق الواصل بين الضفة والقطاع.

وطبعاً كما هو معروف، اعتبر الرئيس ياسر عرفات أن التنازلات الاسرائيلية لم تصل إلى الحدود الدنيا المقبولة فلسطينياً وذلك لسببين جوهريين:

أولهما: الاخلال بحق العودة للاجئين إلى المدن والقرى التي طردوا منها على أثر نكبة عام 1948، وذلك على قاعدة القرار 194.

ثانيهما: الاخلال بالسيادة الفلسطينية على القدس العربية، خاصة المقدسات حيث يطالب باراك بالسيادة المشتركة على ساحات المسجد الأقصى.

ولذلك دعونا نحترم خيارات الآخرين، ونحترم تجربتهم وظروفهم، فأهل مكة أدرى بشعابها وخياراتهم، فأهل لبنان، وأهل سورية وأهل فلسطين، كل منهم أدرى بظروفه وخياراته، فالسوري يهدف لاستعادة حقوقه بالمفاوضات رغم انحيازه ودعمه لنهج وخيار المقاومة اللبنانية المسلحة والاستشهادية.

والفلسطيني باسلحته الثلاثة (الانتفاضة، المفاوضات، قرارات الشرعية الدولية) المكملة لبعضها بعضاً يعمل على جلاء الاحتلال وتحقيق كامل حقوق الشعب الفلسطيني المتمثلة في المساواة والاستقلال والعودة.

وعلينا كعرب ومسلمين ومسيحيين أن نحترم قرارات وخيارات الفلسطينيين لأن ما يفعلونه يعكس واقعهم وظروفهم، فهل ندرك هذه المعادلة؟؟

آمل ذلك!!...

* كاتب ومعلق سياسي