كوميديا سوداء

TT

قبل أيام ظهرت الفنانة المصرية، السورية الأصل، رغدة على شاشة الفضائية العراقية، كما تناقلت وكالات الأنباء صورتها وهي تلوح بيمينها محيية الجماهير العراقية التي خرجت احتجاجا على الغارة الأميركية، من فوق المنبر ذاته، الذي يقوم في شارع 14 رمضان في حي المنصور الراقي، بجانب الكرخ، من بغداد، الذي يقف فوقه عادة المسؤولون البعثيون لإلقاء خطبهم الرنانة على العراقيين الذين غالبا ما يخرجون في تظاهرات إجبارية لتأييد النظام. وبذات الطريقة الشهيرة، التي يحيي فيها الرئيس صدام حسين الجماهير، وقفت الممثلة رغدة وحيت العراقيين وخطبت فيهم معتقدة أن العراقيين بحاجة إلى المزيد من الخطابات الثورية، وكأنهم ما شبعوا خطابات طوال أكثر من 33 سنة.

نحن نفهم أن يقدم على ذلك بعض الشعراء والكتّاب العراقيين، وان يمتدحوا صدام حسين طمعا في شقة أو سيارة فارهة، أو الاثنتين معا، أو مبلغ من المال، أو من أجل القفز على منصب مدير عام في وزارة الثقافة والإعلام، أو في مجلس قيادة الثورة، أو مضطرين كما يدعي بعضهم.

وكنا قد شاهدنا قبل أكثر من أسبوع عبد الرزاق عبد الواحد، شاعر قادسية صدام (وهذا لقبه الرسمي)، على الفضائية العراقية وهو يشكو أمام صدام حسين في مطولة (مدائحية) كيف أن حرفه يوجعه إن هو لم يمتدح الرئيس، وليعترف بعدها في حوار نشرته «الشرق الأوسط» من باريس بأنه قال مديحا في صدام حسين ما لم يقله المتنبي في سيف الدولة، شاكيا في ذات الوقت انقطاع الهبات (المكرمات) عنه، وهذه رسالة إلى صدام حسين لإعادة أو مواصلة هذه الهبات من غير أن يذكر أن الرئيس العراقي كان قد أمر ببناء قصر له على ضفاف دجلة في واحد من أرقى أحياء بغداد، وانه كان يتلقى سيارة فارهة كهدية كل ثلاثة أشهر تقريبا وعلى مدى الحرب العراقية ـ الإيرانية.

نعم، كل هذا مفهوم، لكن ما كنا نجهله منذ ان كنت في العراق وحتى اليوم هو ان تنخرط في هذه العملية، اللعبة، التجارة الخاسرة، غالبية من المثقفين العرب، الذين كانوا يجيئون بالعشرات أو المئات لينافسوا المداحين العراقيين بابتداع أساليب جديدة لمدح صدام حسين ويقبضون ما قسّمه الله لهم ثم يمضون إلى بلدانهم من غير أن يدركوا انهم ساهموا بجريمة شحن الرئيس بطاقة اضافية من التسلط والشعور بالعظمة ليصبها فوق رؤوسنا، أو ربما كانوا يدركون ذلك.. وهذه جريمة أكبر.

كانوا يجلسون في بيوتنا في العشيات والسهرات ونحدثهم عن جرائم النظام ضد المثقفين العراقيين وأساليب الاضطهاد وكبت الحريات الذي يمارس ضدنا كل يوم، فيبدون مشاعر الألم والتعاطف، بل ان بعضهم كان يداري مشاعرنا بدموع التماسيح، لنفاجأ بهم في اليوم التالي وقد دبجوا القصائد والكلمات في مدح النظام. وكنا نحمد الله أن العملية تتوقف عند ذلك ولا تتعداها إلى الوشاية بنا من باب المزايدة على وطنيتنا. كانت كل كلمة مديح بحق الرئيس أو كل وصف أو لقب ابداعي يطلق بحق هذا الوزير أو ذاك من قبل شعراء نكن لهم الاحترام والتقدير، تصيب مشاعرنا مثل الخناجر المسمومة، ألقاب خجل غتابية من الشعراء العراقيين منحها لجهلة في الثقافة العراقية أو العربية مثل وصف وزير يعتبر قطعة آجر نقشت عليها صورة رئيسه أهم من قطعة آثار بابلية عمرها خمسة آلاف عام، فيأتي شاعر عربي مناضل ليصفه بـ «وزير الشعراء».

واليوم يطلع علينا بعض الفنانين العرب ببدعة جديدة، وهي «الحج» إلى بغداد واللقاء بصدام حسين لمباركة كل سياساته إزاء العرب بصورة عامة والعراقيين بصورة خاصة، وكأن هؤلاء الفنانين قد اكتشفوا بغداد اليوم، فهذه الفنانة تفتخر أن «أبو عدي» أزال الكلفة معها وناداها بـ«أم محمد»، وذاك الفنان يحسد العراقيين على ما أصابهم من حصار وموت وجوع وذل ويتمنى ذلك لشعبه. ثم جاء دور «البودي جارد» لدعم أطفال العراق وكأن العراقيين عاشوا كل النعيم ولم يتبق لهم سوى مشاهدة المسرحيات الكوميدية لتكتمل صورة السعادة في حياتهم. ألا تكفي الكوميديا السوداء التي يعيشونها منذ أكثر من ثلاثة عقود. وأتساءل: من سوف يحضر مسرحية كوميدية بطلها فنان مثل عادل إمام؟ هل هم الجياع الذين لا يجدون لقمة يومهم؟ أم أهالي الأطفال المرضى الذين لا يستطيعون الحصول على علبة دواء من الأدوية المكدسة في المذاخر الخاصة بمستشفيات «ابن سيناء» الرئاسية والمخصصة لعوائل المسؤولين والمقربين منهم؟ هل ستعرض مسرحية «بودي جارد» في مستشفيات الأطفال لمنح المرضى النكتة قبل موتهم، أم في سجون النظام المزدحمة بالأبرياء، أو ربما في ميادين بغداد التي يؤثثها الأطفال والنساء اللواتي يستجدين لقمة الخبز؟ لماذا يدير المثقفون العرب اليوم وجوههم عن الحقيقة ويتغاضون عن جرائم النظام العراقي ضد الشعب القابع هناك وضد المثقفين العراقيين المنفيين على خرائط العالم، وهم يدركون أن أية زيارة إلى بغداد اليوم هي مباركة للنظام ولأساليبه ولسياساته ضد العراقيين والعرب؟