استنكر أيها الصادق

TT

لو كنت مكان الصادق المهدي لكنت اول من استنكر اعتقال حسن الترابي. فالصادق يعرف معنى ان تصبح الزعامة في طاعة الشرطة العسكرية. وهو يعرف ماذا يعني السجن لسبب سياسي او لخلاف في الرأي او بسبب تحالف ما. وهو يعرف معنى ان يتهم الزعيم السياسي بصدقه وخلقه الوطني. لذلك، لو كنت مكان الصادق المهدي، لأسرعت اعترض واحتج واستنكر.

يجب الا يقبل الصادق لنسيبه فكرة السجن لمجرد انه لم يعد في السلطة، لمجرد ان الشرطة العسكرية لم تعد تحت امرته، لمجرد ان القضاء والسلطة جسم واحد في العالم العربي، لمجرد ان القانون يمكن ان يتحول الى فرقة وقبعات، بحيث لا تعود الزعامة السياسية والتمثيل الشعبي والتاريخ الوطني وبطولات الاستقلال ونضالات الاستعمار وكل ارث آخر، لا يعود شيء له قيمة او كلمة او أمر، سوى أمر السيد قائد الشرطة العسكرية.

كان يجب على الصادق المهدي ان يتذكر ويعترض. ان يتذكر كيف كان يقاد الى السجن وكيف كان يعاد وكيف كان السجن يستبدل بالاقامة الجبرية او بالهرب الى المنفى. كيف كان كل ذلك يتم ايام كان الدكتور الترابي يحكم في الخرطوم ويرسم للآخرين اصول الحكم. كان عليه ان يتذكر وان يرفض، بصورة مطلقة، ان يعيش الترابي التجربة نفسها وان يمرّ بالطريق نفسه الى السجن، وان يتعرف، بلا حول، الى قائد فرقة الاعتقال الذي كان يتلقى منه الاوامر بالامس، انه حتماً لم يتغير. تلك هي المناصب الوحيدة الكلية الضمانة في العالم العربي، قائد فرقة الاعتقال، وآمر السجن وقاضي التحقيق. انه حق الخبرة وتقدير الامتياز.

يجب ان نتعلم في العالم العربي كيف نستنكر الاعتقال السياسي. ولم يكن ضرورياً على الاطلاق ان يذهب الدكتور الترابي مرة اخرى الى السجن لكي يعرف ما معنى ان ينام الانسان خلف الجدران القائمة بين الموت والحياة، لمجرد ان له رؤيا او موقفاً مخالفاً. او لكي يعرف ما معنى ان تصبح حياة الانسان وكرامته في يد آمر الشرطة العسكرية. او لكي يعرف ما معنى ان يمضي الزعيم السياسي ليله بعيداً عن اولاده وعائلته ومحازبيه ومناصريه.

لا بد من تغيير هذه العادة القديمة في العالم العربي: من القصر الى الأسر. ومن قمة السلطة الى اعماق السجون. ومن الأمر بنفي الزعامات وسجنها وتشريدها الى تلقي الاوامر من آمر فرقة الاعتقال وضابط النوبة في السجن. لقد كان على الصادق المهدي ان يكون اول المعترضين، والا ما معنى كل ما كتب عن المجتمع المدني، اذا لم يكن حريصاً قبل اي شيء على حرية خصمه الذي كان يحكم عليه بالعيش ما بين السجن والاقامة الجبرية، وما معنى الحرية اذا لم يهب للدفاع عنها اولئك الذين اودعوا السجون والمنافي والالغاء بسبب تمسكهم بالحرية والقانون ـ حرية الآخر قبل حرية الذات.