..ثم انتقلوا إلى هدم الأصول السنة القولية.. والبيعة: نموذجا

TT

تنويع الخطاب مطلوب لذاته. ومطلوب لمواجهة ما يجد من قضايا.. وليس بالضرورة ان يكون ما يجد: قضايا سياسية بالمعنى اليومي الشائع للتعبير.

وللحديث اليوم عن (السنة القولية)، وعن (البيعة) مناسبتان: المناسبة الاولى هي ظاهرة انتقال المجادلين في الاسلام من الكلام في الفروع والجزئيات الى هدم اصول الاسلام ومبادئه نفسها.. والمناسبة الاخرى هي: الحج.. والمناسبتان مرتبطتان موضوعيا، بمعنى ان للحج علاقة بالسنة القولية، وبالبيعة في الاسلام، وعلى الاسلام.

قد يتخلف المسلمون في هذا العصر او ذاك. وقد تنزل بهم هزائم عسكرية وسياسية. بيد ان العاصم من ان يتحول التخلف وتتحول الهزائم الى ضياع كامل، والى انقراض (الشخصية المعنوية والحضارية) للمسلمين، العاصم من هذا المصير هو: ان تظل الاصول والمبادئ واضحة باقية ابدا، يفيء اليها الناس بعد تخلف، وينعطفون نحوها بعد هزيمة، مستأنفين بذلك: دورة حضارية جديدة، على ذات الاصول والمبادئ الهادية.

ومن هنا، فان محاولة (تحطيم المعيار ذاته) يتعدى إثم المحاولة ـ في زمن ما ـ الى التورط المتعمد في مباشرة الإضلال المطلق للمسلمين، والإظلام الشامل لمستقبلهم ومصيرهم.

وانه لمن هدم الاصل، وتحطيم المعيار:

أ ـ رد (السنة القولية).

ب ـ انكار (البيعة الاسلامية).

السنة القولية ليست مصدرا للتشريع! قال قائلهم ـ منذ قليل ـ اننا نأخذ بالسنة الفعلية او العملية، ولا نأخذ بالسنة القولية.

وهذا قول باطل شرعا وعقلا:

اولا: ان السنة القولية هي وحي، ولكنه وحي غير متلو، إذ ان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا ينطق عن الهوى. ثانيا: ان المسلمين ملزمون بأخذ ما اتى به الرسول وبالانتهاء عما نهى عنه بنص القرآن: «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا».. والآية قاطعة الدلالة على اخذ كل ما صدر عن الرسول من قول وفعل وتقرير، وليس فيها ـ قط ـ ما يدل على اخذ الفعل فحسب.

ثالثا: ان السنة القولية هي ـ في الغالب ـ (دليل) السنة الفعلية، بمعنى ان الفعل لا يقع إلا بناء على قول صحيح للرسول.

رابعا: انه يستحيل: الفهم المفصل للعبادات ـ مثلا ـ دون السنة القولية.

والحج ـ الذي يؤديه المسلمون في هذه الايام ـ برهان حاسم على ان السنة القولية هي دليل السنة الفعلية وبيانها.

لقد قال الله جل شأنه: «وأتموا الحج والعمرة لله» فكيف يكون العمل والتمام؟.. هل تكون اعمال الحج كما كانت في الجاهلية؟ ام ان هناك صورة او صيغة اخرى اسلامية؟.. ومن يبيّن هذه الصيغة ويفصلها؟.. لا ريب انه الرسول الذي ابتعثه الله ليبين للناس ما نزل اليهم.. ومن السنة القولية في الحج قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم».. «لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك.. ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».. «دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبدٍ أبدٍ».. «وقفت هنا وعرفة كلها موقف».. وقال في المواقيت: «هن لهن ولمن اتى عليهن من غيرهن لمن أراد الحج او العمرة».. وقال عن الحج الصحيح المقبول: «من حج ولم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه».. الى غير ذلك من السنة القولية المبينة لاعمال الحج المتنوعة.

لا بيعة إلا لله والبيعة للأفراد اختراع بشري! وقال قائلهم ـ منذ قليل ـ: ان المؤمنين يبايعون الله فقط، لان البيعة هي لله لا للافراد. وان البيعة لم تكن للنبي بل لله، وان البيعة اختراع بشري، اخترعه الطغاة ليستبدوا به على الناس.

وهذا كلام باطل مناقض لشريعة الاسلام: كتابا وسنة.

ولنبدأ بمدخل ذي صلة بـ(الحج).

حَجَ عمر بن الخطاب، وسمع ـ وهو في مِنًى ـ كلاما خاطئا في مفهوم البيعة، فعزم على تصحيح الامر للناس في هذا الموسم الجامع. بيد ان عبد الرحمن بن عوف نصحه بان الوقت غير مناسب واقترح عليه ان يؤجل الحديث الى حين يعود الى المدينة حيث دار الهجرة والسنة واهل الفقه، فاستجاب عمر للاقتراح وحين وصل الى المدينة، خطب في الناس في المسجد وقص عليهم قصة بيعة ابي بكر في سقيفة بنى ساعدة.. ومما قاله عمر في خطبة السياسة الشرعية هذه: «فقلت: ابسط يدك يا ابا بكر، فبسط يده، فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الانصار. وإنا والله ما وجدنا في ما حضَرَنا من امرنا اقوى من مبايعة ابي بكر.. ومن بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يُبايَع هو ولا الذي بايعه تَغرّة ان يقتلا». والمقصود بالعبارة الاخيرة هو: ان البيعة ليست فوضى ولا هوى.. ويقول ابن الاثير في شرح هذا الحديث: «ان البيعة حَقُّها ان تقع صادرة عن المشورة والاتفاق، فاذا استبد رجلان دون الجماعة بمبايعة احدهما للآخر فذاك تظاهر منهما بشق عصا الطاعة، واطّراح الجماعة. فان عقد لاحد فلا يكون المعقود له واحدا منهما، وليكونا معزولين من الطائفة التي تتفق على تمييز الامام منها، لانه ان عقد لواحد منهما ـ وهما قد ارتكبا تلك الفعلة الشنيعة التي احقدت الجماعة من التهاون بهم والاستغناء عن رأيهم ـ لم يؤمَن ان يُقْتَلا».

ان بيعة ابي بكر التي قص عمر قصتها لم تكن (اختراعا) بشريا، بل لم تكن (اجتهادا) بشريا.

فالبيعة الاسلامية شريعة، شرعها الله ورسوله.

وهذا هو البرهان الشرعي من الكتاب والسنة:

1 ـ البرهان على (البيعة) من القرآن:

أ ـ «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً».

فهذا نص على مبايعة الرسول «إن الذين يبايعونك». اما قوله تعالى «إنما يبايعون الله» ـ فهو ـ كما قال ابن كثير: كقوله جل وعلا «من يطع الرسول فقد أطاع الله».

ب ـ «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً».

وهذا نص قطعي الدلالة ـ كذلك ـ على بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

2 ـ البرهان على (البيعة) في السنة:

أ ـ دعا رسول الله الناس الى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، اذ نادى منادي رسول الله: ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله وامر بالبيعة فاخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوا.

ب ـ قال عبادة بن الصامت: «كنت فيمن حضر العقبة الاولى، وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء (اي البيعة المماثلة لبيعة النساء الواردة في سورة الممتحنة) وذلك قبل ان يفترض علينا الحرب: على ان لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل اولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين ايدينا وارجلنا ولا نعصيه في معروف».

جـ ـ وقال جابر بن عبد الله الانصاري ـ وهو يتحدث عن بيعة العقبة الثانية ـ: فقلنا حتى متى نترك رسول الله يُطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شِعب العقبة فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله نبايعك. قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وان تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى ان تنصروني فتمنعوني اذا قدمت عليكم مما تمنعون منه انفسكم وازواجكم وابناءكم». قال جابر: «فقمنا اليه فبايعناه».

د ـ وهناك السنة القولية الموجبة للبيعة، المبينة لها.

قال النبي صلى الله عليه وسلم:

ـ «من بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع».

ـ «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب: (منهم) رجل بايع إماما، فان اعطاه وفّى له، وإن لم يعطه لم يوف له».

ـ «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».

وفي ضوء هدى القرآن، وبمقتضى السنة القولية العملية، طبقت البيعة في الخلافة الراشدة.

ولقد رأينا ـ قبل قليل: بيعة ابي بكر كما اخبر بها عمر.

وجاءت بعد بيعة ابي بكر: بيعة عمر. اذ دعا ابو بكر عمر فقال له: اني مستخلفك على اصحاب رسول الله يا عمر. وكتب الى امراء الاجناد: «ولَّيتُ عليكم عمر ولم آلُ نفسي ولا المسلمين خيرا. ثم مات ودفن. ثم قام عمر في الناس خطيبا، وقبل الاستخلاف ثم بايعه الناس.

ثم كانت بيعة عثمان بعد استشهاد عمر، فقد جعل عمر الامر شورى في ستة هم: علي، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن. فاختير عبد الرحمن بن عوف ليعرف رأي الناس، فرضي المسلمون بعثمان. فبايع ابن عوف عثمان، ثم بايعه الناس والمهاجرون، والانصار، وامراء الاجناد.

ثم كانت بيعة علي. فقد رغب المسلمون في بيعته، فقال: ففي المسجد. فدخل المهاجرون والانصار فبايعوه.

اذن، فالبيعة الاسلامية لم تكن (اختراعا) بشريا، ولا اجتهادا بشريا، بل كانت تشريعا انتظمه الكتاب والسنة، وعمل به الرسول واصحابه من بعده. وسار عليه الحكام المسلمون من بعد، في العصور المختلفة.

وخلاصة المقال هي:

1 ـ ان السنة القولية شرع يجب الاخذ به، وانه لا يمكن فهم القرآن، ولا تطبيق فرائضه وشرائعه الا بالسنة القولية.

2 ـ ان البيعة شِرعة في الكتاب والسنة ماضية ابدا لا ينسخها ولا يلغيها رأي احد.

3 ـ ان الحكم الاسلامي يستمد شرعيته من البيعة على العمل بشريعة الاسلام.

4 ـ ان البيعة هي البديل الشرعي للقول بالتنصيص على الحاكم، والادعاء باختيار العناية الالهية للحكام. اذ لا بد من اختيار الحاكم وارتضائه عن طريق البيعة.

5 ـ ان البيعة هي (ركيزة) العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، لمن شاء ان يستعمل المصطلحات المعاصرة.

ومن اجمل التعريفات للبيعة: تعريف ابن خلدون، اذ قال ـ في المقدمة ـ «ان البيعة هي العهد على الطاعة، كأنّ المبايع يعاهد اميره على ان يسلم له النظر في امر نفسه، وامر المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الامر على المنشط والمكره».