عمرو موسى .. المرشح الأمثل

TT

لقي ترشيح مصر لوزير خارجيتها اللامع عمرو موسى لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية ترحيباً واسعاً في الشارع العربي، وهو لا شك ترحيب مستحق من عدة أوجه:

ـ فالرجل مشهود له بالكفاءة الدبلوماسية، وقد عرف بأسلوبه الجامع بين الصراحة والرصانة ودقة العبارة، لا يتردد في التعبير عن المواقف المبدئية باللغة المباشرة الجريئة، ولو اقتضى الأمر تجاوز بعض مألوفات المسلك الدبلوماسي المتواضع عليها. كما ان له حضوراً اعلامياً متميزاً، جعله دوما ملجأ الصحافة العربية والدولية لسبر أوضاع المنطقة، والتعليق على أحداثها ومستجداتها.

ـ على الرغم من ان الشأن المصري استأثر ـ كما هو بديهي ـ بالجانب الأوفر من مشاغل واهتمامات عمرو موسى خلال السنوات العشر الماضية، فإن الهموم القومية رجعت في عهده الى موقعها المحوري في الدبلوماسية المصرية، التي استعادت بعض أدوارها السابقة بعد العزلة التي ضربت عليها اثر توقيع السلام الانفرادي مع اسرائيل عام 1979، وما تلاه من قطيعة مع الاقطار العربية، ونقل لمقر الجامعة من القاهرة الى تونس.

ومع انه تولى مسؤولية السياسة الخارجية المصرية في مرحلة شهدت تفاقم الانقسامات العربية بعد حرب الخليج الثانية، إلا انه استطاع مع ذلك بلورة نهج جديد في السياسة العربية لمصر، يرتكز على الثوابت القومية الأساسية من تكريس للتضامن العربي، وتفعيل لمؤسسات العمل العربي المشترك، واضطلاع الدولة الكبرى في المنطقة بدور الوسيط في النزاعات البينية التي تشل النظام الاقليمي العربي.

في هذا السياق، يذكر لعمرو موسى، الذي منحه الرئيس مبارك هامش حركة واسعا، انه مهندس آلية التنسيق الثلاثي بين مصر والمملكة العربية السعودية وسورية، وهي الآلية التي ظهرت في السنوات الأخيرة تعبيراً عن الحاجة الموضوعية لملء فراغ خلفته انتكاسة النظام الاقليمي العربي.

كما يذكر له انه ارتبط بسياسة التقارب بين مصر ودول المغرب العربي، التي قد تفضي الى انضمام بلاده للاتحاد الجامع بين بلدان شمال افريقيا، وفي عهده توطدت العلاقة بين مصر وليبيا بعد عقدين من الجفاء والقطيعة، وعادت المياه لمجاريها مع السودان فرجعت الثقة بين البلدين الجارين اللذين تربطهما علاقات استراتيجية خاصة.

بيد ان المكسب الرئيسي الذي يذكر لعمرو موسى هو دوره في القضية القومية الأولى، أي القضية الفلسطينية التي نالت القسط الأكبر من حركته واهتماماته. وعلى الرغم من انه ورث تركة كامب ديفيد، التي قننت العلاقات السلمية بين مصر واسرائيل، وحكمت على الدولة العربية الكبرى بالخروج من تبعات الصراع العربي ـ الصهيوني، فإنه استطاع الظهور لدى الشارع العربي بمظهر الخصم العنيد لاسرائيل والرجل الذي لا يتوانى عن فضح سياسات ومخططات الدولة الصهيونية، مما جر عليه نقمة الحكومات الاسرائيلية المتتالية، بل الادارة الاميركية التي لم تكن ترتاح لصراحته وجرأته.

لهذه الاسباب كلها، يمكن القول ان ترشيح عمرو موسى امينا عاما لجامعة الدول العربية هو الاختيار الامثل، وإن كان التساؤل مطروحا حول طبيعة المهمة، وحجم الدور، والمسؤولية التي ستمنح للأمين العام المرتقب، إذ غني عن البيان ان أوضاع هذا البيت العربي لا تزال غير صحية، فهياكل الجامعة مشلولة، وأداؤها ضعيف هش، ومواردها المادية شحيحة قليلة. وبطبيعة الأمر، تعود هذه الوضعية قبل كل شيء الى انعكاسات حالة النظام الاقليمي العربي، الذي لم يستعد عافيته بعد زلزال الخليج وتبعاته المأساوية.

ولئن كان الحديث بدأ يعود حول المصالحة العربية الشاملة، وتحقيق التضامن العربي، وتصفية الخلافات البينية بين الدول، في أفق التحديات المطروحة على الأمة، وعلى رأسها دعم انتفاضة الأقصى ومواجهة حكومة الحرب التي ستعلن في اسرائيل وشيكا، إلا ان استكناه الحقائق الموضوعية للمرحلة يبين بجلاء ان العرب ما زالوا بعيدين عن التوصل للحد الأدنى من التوافق الاستراتيجي حول القضايا المحورية، التي تهم الأمة في اللحظة الراهنة.

فلا يزال البديل عن مسار التسوية الشرق أوسطية المتعثرة، غير واضح ولا محدد، في الوقت الذي بدأت فيه اسرائيل تطرح خيارات بديلة (اتفاقات مرحلية جديدة): فكيف يتعين استثمار مكاسب الانتفاضة، والحقائق التي افضت اليها في أرض الواقع في الخروج بمقاربة جديدة لادارة الصراع العربي ـ الصهيوني؟ وما هو سقف المواجهة المفروضة مع الصلف الاسرائيلي؟

كما ان العلاقات العربية ـ الاميركية التي تحتاج وقفة مراجعة جذرية في أفق التحولات النوعية التي عرفها المشهد السياسي الاميركي بعد الانتخابات الاخيرة، تستدعي في الآن نفسه حداً أدنى من التنسيق والتوافق، لا يبدو ان الأطراف العربية قد تأهبت له.

تضاف الى هذه الملفات العاجلة، ضرورات الحسم في القضايا البينية العالقة، وعلى رأسها الحالة العراقية المستعصية، وطبيعة العلاقات بقوى الجوار، وعلى الأخص ايران وتركيا. ان حسم مثل هذه الخيارات لن يكون بمقدور أمين عام لجامعة الدول العربية، حتى ولو كان من طراز عمرو موسى، إذ المسؤولية عائدة في الجوهر الى قادة الاقطار العربية الذين سيلتقون عما قليل في قمتهم السنوية بعمان.

ولذا اقترح هنا على المرشح المصري المرموق وضع برنامج سياسي متكامل لاحياء العمل العربي المشترك وتفعيل جامعة الدول العربية، لاقراره من قادة الاقطار العربية بغية رسم اطار جاد ومرن لحركته. أي الامساك بالشروط الموضوعية للنجاح، ولو وفق أجندة محدودة، بدل الاغراق في العمل البيروقراطي للجامعة من دون قدرة على الفعل والحركة، وعندئذ تكون مصر خسرت وزيراً لامعاً لخارجيتها، ولم يربح العرب شيئاً.