رسائل الزلزال وتحذيراته للعالم العربي والإسلامي

TT

نحتاج إلى عقد حلقة نقاشية تجري حواراً جاداً حول الرسائل التي يجب أن يتلقاها العرب والمسلمون من كارثة الزلزال البحري الرهيب، الذي دمر السواحل الآسيوية، وقتل حتى الآن 165 ألف شخص، غير الملايين الخمسة الذين شردوا بسببه. ذلك أنني أزعم أن الجهد الذي بذل في الإعلام العربي، انصب على تغطية الحدث أكثر مما ركز على دروسه واستحقاقاته. ولا أريد هنا أن أقلل من المساهمات العربية التي قدمت حتى الآن لإغاثة ضحايا الزلزال المروع، رغم أن ثمة أصواتاً انتقدت تواضعها النسبي، لكنني أزعم أن تلك المساهمات تمثل جزءاً محدوداً من الاستحقاقات، يمثل حدودها الدنيا، ويبقى الباب مفتوحاً للتفكير في استحقاقات أخرى، هي تلك التي أدعو إلى التفكير فيها وأخذها على محمل الجد.

الاستحقاقات التي أعنيها، يتعلق بعضها بالمجتمع الإنساني الذي نحن جزء منه، ويتعلق البعض الآخر بالعالم العربي والإسلامي الذي نحن في قلبه.

لقد بين الزلزال، الذي فاجأ الجميع وروعهم، أن الإنسان ليس ذلك «الإله» الذي تصوره في نفسه، وأن المجهول في الكون أخطر، إن لم يكن أكبر من المعلوم الذي أحاط به العقل البشري، وأن أمثال تلك الكوارث الطبيعية حين تحل بالعالم، فإنها لا تفرق بين جنس أو دين أو عظيم أو فقير، إذ أمامها يصبح الجميع ضعفاء لا حول لهم ولا قوة، وهذه الخلفية تكشف عبثية الصراعات والسباقات الحاصلة في العالم، بقدر ما تكشف سفه المستكبرين وتفضح جبروتهم وغفلتهم.

لقد هب العالم لغاثة منكوبي الزلزال، وتنافست الدول الكبرى والمنظمات الدولية في عمليات الإنقاذ وتقديم العون، لكن هذا العالم ذاته يترك الملايين في أفريقيا بوجه أخص، فريسة للجفاف والأمراض القاتلة، لقد اعتمدت الولايات المتحدة وحدها مبلغ 80 مليار دولار لمواجهة تكاليف احتلال العراق في العام الجديد وحده، في حين أن كل ما رصد من تبرعات لإغاثة ضحايا الزلزال، يتراوح بين أربعة وخمسة مليارات دولار، يعلم الله وحده كم سيصل منها فعلاً إلى الدول المنكوبة، (للعلم في أعقاب الزلزال الذي ضرب مدينة «بم» الأثرية في إيران وقتل 55 ألف شخص في العام الماضي، أعلنت دول العالم عن التبرع بمبلغ مليار دولار لإغاثة المنطقة وإعادة إعمارها، لم تنل الحكومة الإيرانية منه سوى 17 مليوناً فقط).

وسيظل مخزياً وفاضحاً أن نكتشف أن المساعدات التي وعدت الولايات المتحدة بتقديمها إلى ضحايا الكارثة (350 مليون دولار) تعادل نفقات يوم ونصف يوم من تكاليف حربها في العراق. كما أن حجم المساعدات المقدمة من الحكومة البريطانية (100 مليون دولار)، يعادل نفقات خمسة أيام ونصف يوم مما تتكلفه قواتها في العراق.

وإذا تتبعنا الأرقام المختلفة في هذا الاتجاه، سوف تصدمنا حقيقة أن الدول الكبرى بوجه أخص، تدفع في صناعة السلاح وإشاعة الموت والدمار، أكثر مما تدفعه في الدفاع عن الحياه والنماء.

فيما يتعلق بالعالم العربي والاسلامي ، لاحظت أن نفراً من الناس شغلوا أنفسهم بالحكمة الإلهية وراء الكارثة، بأكثر مما شغلوا أنفسهم بالنتائج والدروس العملية الواجب استيعابها مما جرى ، وهؤلاء لم يختلفوا كثيراً عن الجماعات المسيحية الصهيونية ، التي عبرت عن ارتياحها لما حدث، لظنها أن تلك ارهاصات الدمار الكبير الذي يسبق نزول السيد المسيح لتنصير العالم وحكمه.

ولأن هؤلاء وهؤلاء يشكلون أقلية استثنائية، بالغ الإعلام في تصويرها، فإن ما صدر عنهم من تحليلات ونبوءات لا يستحق الوقوف عنده، وإنما يتعين تجاوزه إلى غيره، لتحري مسؤوليات البشر، لا للتحقيق في ما وراء المشيئة الإلهية.

وفي إطار تحري تلك المسؤوليات، يثير المشهد قضايا ويفتح ملفات، تستحق حواراً ومراجعة في مقدمتها ما يلي:

* لقد تنادى العالم من كل صوب لإغاثة ضحايا الزلزال، علماً بأن نصفهم على الأقل من المسلمين (لا ننسى أن بين الضحايا 105 آلاف شخص من إندونيسيا، أكبر بلد مسلم)، والذين سارعوا إلى الإغاثة لم يسألوا عما إذا كان المنكوبين مسلمين أو مسيحيين أو بوذيين، ولكن حركهم بالدرجة الأولى هول الفاجعة والانتماء الإنساني (دعك مما تردد عن أن واشنطون أرادت أن تنتهز الفرصة، لكي تحسن صورتها القبيحة في العالم الإسلامي) ـ وهذا السلوك المقدر يثير في جانبنا سؤالاً كبيراً هو: إلى أي مدى يتفاعل المسلمون مع الكوارث التي تحل بالآخرين؟ ـ أدرى أن أحزان المسلمين وفواجعهم بغير حصر، وتستوعب جهودهم وقدراتهم وتزيد، لكنني أزعم أن جهود المسلمين في مجالات الإغاثة الإنسانية يجب أن تظل حاضرة، وألا تغيب بأي حال. أما الإجابة عن التساؤلات من وأين وكيف، فهذا ما أجعله موضوعاً للمناقشة المرجوة.

* تناقلت وكالات الأنباء أن 36 ألف طفل وطفلة من أبناء المسلمين، أصبحوا يتامى في مقاطعة آتشيه الإندونيسية، التي تعد من أكثر المقاطعات التزاماً بالتعاليم وتعلقاً بالإسلام، أصبحوا الآن مطمعاً لعصابات تجارة الأطفال، وجماعات التبشير التي سارعت إلى مد يد «العون» لهم، في حين لا أبالغ إن قلت إن مسؤولية رعايتهم تقع على عاتق العالم الإسلامي بالدرجة الأولى. والسؤال المطروح الآن هو: كيف سيواجه المسلمون هذا الموقف؟

* الملاحظ أن عمليات الإغاثة الحاصلة أسهمت فيها كل المنظمات الإنسانية والإغاثية في العالم، وغابت عنها المنظمات الإغاثية الإسلامية، باستثناء واحدة بهذه الصفة مقرها لندن ـ بعيداً عن العالم العربي ـ وباستثناء بعض الجمعيات الخيرية المرتبطة بالحكومات في عدد من الأقطار العربية. أما المنظمات الإغاثية الأهلية العربية فلم يشعر أحد بوجودها، لأنها تلقت ضربات قاصمة بعد أحداث 11 سبتمبر، بعدما اتهمت بأنها تمول الإرهاب، في حين لم يثبت ذلك بحق أغلبها على الأقل. والمشهد الراهن يدعونا إلى إعادة النظر في هذا الملف، ليس فقط لرد الاعتبار إلى المنظمات التي ظلمت وأغلقت أبوابها استجابة للضغوط أو إرضاء للأميركان، وانما أيضاً لأنها قدمت خيراً كثيراً لفقراء المسلمين وضعفائهم في أفريقيا وآسيا والبلقان، وبعد أن حرموا من ذلك الخير، فإن المنظمات التبشيرية كانت البديل الذي فتحت له الأبواب على مصارعها، الأمر الذي ضاعف من خسارة أولئك المسلمين الضعفاء، حيث خسروا الدنيا والآخرة معاً.

* تناقلت التقارير الصحفية أن قمة «الإنقاذ» التي عقدت في جاكرتا، قررت إقامة نظام للإنذار المبكر في قاع المحيط الهندي، أسوة بذلك النظام الذي أقامته الولايات المتحدة لأسباب دفاعية في المحيط الهادي، بأمل أن يساعد ذلك على منع الكوارث المماثلة أو تخفيف آثارها. وإذ تبين أن نظام الإنذار الموجود في المحيط الهادي نبه الدول الداخلة في نطاقه مثل تايلاند وإندونيسيا، إلى وقوع الزلزال قبل وصوله إلى شواطئها بدقائق، إلا أن ثورة البحر سبقت التحذير وكان ما كان، وهو ما يعني أن إقامة ذلك النظام على أهميته، ليس ضماناً كافياً لتجنب تكرار الكارثة لا قدر الله.

وإذ لاحظت أن السلطات في سري لانكا وتايلاند قررت منع إقامة المباني والمقرات السياحية على الشواطئ من باب الاحتياط، واتجهت إلى التشديد في إقامة تلك المباني بعيداً عن الشواطئ بصورة نسبية، فإنني أزعم أن ثمة رسالة مهمة هنا يجب تسلمها في العالم العربي، خصوصاً في منطقة الخليج، ذلك أن ثمة سباقاً بين بعض الدول، ليس في إقامة المنشآت على الشواطئ، وإنما في وسط البحر! وتزخر الصحف هذه الأيام بإعلانات كبيرة عن مشروعات تتكلف مليارات الدولارات ستقام وسط البحر، تغري الناس بالشراء والاستمتاع بجمال الطبيعة في تلك المواقع الفريدة. ورغم أن تلك حقيقة لا مراء فيها، إلا أنها أيضاً تظل مغامرة غير مأمونة العاقبة، وهذا ما أكدته، على الأقل، تجربة الكارثة التي نحن بصددها.

لقد نبهني إلى خطورة هذه الظاهرة أحد كبار المعماريين العرب، الدكتور أحمد فريد مصطفى، الاستشاري بالمملكة العربية السعودية، إذ كتب إلي راجياً أن أنقل تحذيره إلى الكافة، ودعوته إلى إعادة النظر في مثل هذه المشروعات والمدن، قبل أن يخدع بعضهم ويورطوا فيما قد يندمون عليه مستقبلاً، في حين أن تحت أعينهم نموذج فادح لا تخطئه عين، ينبغي أن يكون درساً وعبره.

لقد بلغت، اللهم فاشهد.