لا نهاية للتاريخ في «آتشيه»..!

TT

هذا المقال ليس محاولة لإحياء الحديث الذي دار في الصحافة العربية حول المقال الشهير، والذي صار كتابا شهيرا، عن «نهاية التاريخ» الذي سطره فرانسيس فوكاياما، وصار واحدا من أهم أطروحات عصر ما بعد الحرب الباردة. ولكن المطروح هنا هو محاولة لربط أحداث كثيرة معاصرة ووضعها في نسق مفهوم، خاصة بعد أن وقف الإنسان مشدوها، حائرا، وملتاعا، إزاء زلزال جنوب شرقي آسيا وتوابعه من موجات بحرية تعدى ضحاياها وقت كتابة المقال، مائة وخمسين ألف قتيل، وعددا غير معلوم من الجرحى، وقدرا غير محسوب حتى الآن من الخسائر المادية، التي قد تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات.

فحتى حدوث ما حدث من غضب للطبيعة، فإن الوقائع الكبرى التي تشغل بال العالم كانت كلها تقع في نسق العلاقات الاجتماعية بين الجماعات، وبين الدول، وكانت قائمة الأعمال العالمية زاخرة بأخبار الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، والصراع العراقي ـ الأمريكي، وأعداد شتى من الصراعات الداخلية في دول ليس لها حصر. ولكن مجيء «تسونامي» قطع الحبل على أحداث البشر، وأعاد إلى مقدمة الصورة أول أشكال الجدل التاريخي، التي كان الظن أنها قد باتت خارج نطاق العلم الاجتماعي، إما لأن الإنسان حسمها بانطلاقاته وقفزاته العلمية، وإما لأن ما بقي منها لم يعد عصيا على التحكم.

كل ذلك يعيدنا مرة أخرى إلى الإشكالية، التي أثارها فوكاياما في بداية التسعينيات، والتي على عكس ما شاع من كتابات في العالم العربي والإسلامي، لم يكن انتهاء التاريخ بمعنى انتهاء الأحداث والوقائع، بل ولا حتى انتهاء الصراعات، وإنما انتهاء الجدل أو الديالكتيك، الخاص بوجود النقيض التاريخي للنموذج الليبرالي الرأسمالي.

والحقيقة فإن النقد الغربي، وليس العربي، للنظرية قام أساسا على محاولة البحث في الواقع عن هذا النقيض، وبينما رآه هنتجنتون في «صدام الحضارات»، فإن جيمس روزناو مثلا رآه فى التفكك والانقسام، خاصة على أسس عرقية وإثنية، باعتبارها النقيض لعملية الاندماج العالمية.

وربما كانت المشكلة أن كليهما ـ صراع الحضارات والأعراق ـ لم يأتيا من قلب «العولمة»، ومن ذات نسيجها حتى يوفرا نقيضا عضويا لها، ولكن الفاشيات المتعددة الأعراق والحضارات والعابرة للقوميات، والمستندة إلى قواعد دينية واقتصادية واجتماعية وفكرية، ترى في «العولمة» شرا مستطيرا، وتنافسا صعبا، وتسامحا مع ما لا يجب التسامح فيه ومعه، وانفتاحا حيث يجب إقامة الأسوار، ربما كانت هي في النهاية ذلك النقيض، الذي يعيد للنظرية قدرتها على تفسير العالم وفهمه في تقدمه وتراجعه على حد سواء.

ولكن ربما كان ما جرى في المحيط الهندي، على اتساع بحاره وشواطئه، يعيد المسألة كلها إلى جدلها الأول، حيث يقف الإنسان والطبيعة في المواجهة الأولى والأولية، حينما لا تقف أدوات الإنسان عاجزة فقط، بل انها تبقى غير قادرة حتى على الفهم الأولي الذي يوفر ساعات قليلة للإنقاذ.

فمنذ وقف الإنسان على قدميه وأصبح كائنا عاقلا، لأسباب غير مفهومة، من المرجح أنها تنتمي إلى حالة تأثر وتغيير في عدد محدود من الجينات، فقد كانت الطبيعة هي مصدر التحدي والنقيض للإنسان، ومن ثم بات همه الأول فهمها وتطويعها ومحاولة التحكم فيها والسيطرة عليها، وعبادتها اتقاء لغضبها، إذا فشل في ذلك كله. ولعل واحدا من مفاهيم «التقدم»، كان المدى الذي وصل إليه البشر، في الإمساك بتلابيب الدنيا وما فيها من مواقيت وقوانين ونظم. ولكن المعضلة العظمى للإنسانية جمعاء، كانت حينما نسي الإنسان مهمته الأساسية، وراح يبحث عن مهام أخرى، ظهر بما لا يدع مجالا للشك، أنها تصغر تماما عندما تكشر الطبيعة عن أنيابها القاسية.

وربما قدم لنا ما جرى في جزيرة اتشيه الاندونيسية، نوعا من الإلهام حول المعضلة البشرية، فحتى قبل وقوع الكارثة الكبرى، كانت هناك حركة سياسية انفصالية إسلامية أصولية، تريد الانفراد بمنطقة جغرافية وتقيم فيها ما تتخيله الحكم الإسلامي «الصحيح». ولم يقع ذلك في الفلبين أو في تايلاند، حيث المسلمون أقلية، وإنما حدث في بلد أغلبيته الساحقة من المسلمين الأتقياء، بل في أكبر بلد إسلامي على الإطلاق، وكان نتيجة الرغبة في الحصول على حق تقرير المصير «الإسلامي»، أن حربا أهلية مصغرة جرت ما بين جيش الحكومة المركزية وجيش المتمردين المتعصبين. وظل الحال كذلك حتى وقعت الواقعة العظمى، فتقع الهدنة بين الطرفين بعد أن أصبحت أتشيه بؤرة الكارثة ومركزها، وأصبح على الجميع التعامل مع نتائجها المرة.

وحدث ذلك كله، لأنه فجأة بدت هموم البشر، ومشاحناتهم وقتالهم وحروبهم وصراعاتهم، صغيرة للغاية في المواجهة مع الطبيعة القاسية، وظهر الأمر كله من دون معنى لعشرات الألوف من الموتى الذين ماتت معهم آمالهم وأحلامهم، والملايين ممن عليهم التعامل مع نتائجها في مستقبل تعيس.

وبالتأكيد، فإن مثال أتشيه ليس هو المثال الوحيد، وهناك أمثلة كثيرة في منطقة الكارثة الممتدة ما بين المحيط الهادي وغرب المحيط الهندي، وخارج هذه المنطقة أيضا، وكلها كانت مجيشة خلال الأعوام القليلة الماضية لشن الحرب على الإرهاب الدولي، أو حل تناقضات بشرية في المقام الأول. ولكن ما جرى يقول بوضوح، ان الحرب على «إرهاب» الطبيعة لم ينته بعد، وما زال على الإنسان طريق طويل للتعامل مع الكون أيضا، بالمواجهة أو بالتعايش أو بالتحكم. ولا يكون التعامل إلا من خلال مزيد من الفهم، وإذا كانت الدول تصرف الملايين والمليارات على الوقاية من حالات الهجوم المفاجئ، من قبل قوم أو دول اخرى; فقد ثبت أن ما لدينا قليل للغاية للتنبؤ بهجمات للطبيعة، كما ثبت أن كل أجهزة الرصد والمراقبة والأرصاد الجوية، لم تنجح في توفير جهاز إنذار حقيقي للتعامل مع الوحش القادم.

هذه العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ليست أحداثا ووقائع متبقية من ديالكتيك الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، ولكنها واقعة في صميم فكرة «التقدم» ذاتها وما تحتويه من جدل، والتي تشير إلى أن الإنسان لا يزال في أول درجات سلم بحثه التاريخي عن مكان في الكون..!.