سؤال: أين يكمن رضا الشعوب.. ؟

TT

ورد بصحيفة «الشرق الأوسط» في الرابع من يناير الحالي، خبر يدور حول جدلية لا زالت في طور المحاولات لجمع مليون توقيع، عبر نداء سيوجه إلى مجلس الشعب المصري، للمطالبة بتغيير الدستور، لإتاحة انتخاب مباشر لرئيس الجمهورية، بين أكثر من مرشح، ولولايتين رئاسيتين متتاليتين كحد أقصى. وبمنطق الواقع السياسي، دائماً ما يكون هناك القائد الذي يصل إلى السلطة، إمّا بانقلاب عسكري، أو ثورة سياسية، أو نصر انتخابي، أو حكم وراثي، ولكن الأهم من وجهة نظر الشعب، إنما يتمحور حول كلمتين: وماذا بعد؟

يرى أنصار المدرسة الواقعية، أنه توجد ما بين الديمقراطية والسياسة الخارجية، مساحة من التناقض، تتلخص في مبادئ العملية الديمقراطية القائمة على التشاور والعلنية والمشاركة في صنع السياسة العامة، والمتعارضة مع طبيعة السياسة الخارجية، وما تتطلبه من سرعة الحركة، في التعامل مع المتغيرات، ومحدودية عدد المشاركين في إعدادها، نظراً لحتمية السرية في التخطيط والتنفيذ. فإذا اتفقنا نسبياً مع هذه المدرسة، فهذا يعني أن القرارات العليا، التي تدخل في صميم صنع القرار السياسي الخارجي، هي في نهاية المطاف، مسؤولية فئة محدودة جداً، أياً كانت طبيعة النظام الحاكم السائد، وما يهم الشعوب من سياسات دولها الخارجية، حتى في أكثر الدول تطوراً تعليمياً وثقافياً، هو مدى ما تعكسه هذه السياسات من تأثير على مصالحها وبالتحديد الداخلية منها.

فإذن، هي السياسة الداخلية التي تحدد رضا الشعب على الحاكم من تذمره، وليس أدل عليه من حكم النسق الدولي على سياسة الحاكم الفلاني بالضعف أو حتى العدوانية، فإذا التفت إلى مكانته التقديرية لدى شعبه تبين أنها كبيرة! بسبب من مفاتيح المصلحة الوطنية وامتلاك أكبر عدد منها.. من الموارد وتوزيعها داخل المجتمع، من خطط التنمية واستمرارها، انخفاض البطالة، تأمين الصحة، توفر السكن، إمكانية التعليم، و.. و...

فالحريات السياسية والاقتصادية لا تهم الشعب، إلا بقدر تأمينها له سبل العيش الكريم، سواء أتى هذا التأمين على دبابة أو بورقة انتخاب، فالديمقراطية بمعنى حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب، قد تعني اللاديمقراطية في آخرها، ففكرة الشعب لا بد أن يقابلها وجود دولة، أي قيادة، أي سلطة وتنظيم، وإلا «إذا» استحال المجتمع كله شعباً، فأين الحاكم وأين المحكوم!

وعليه، فإن تطبيق الديمقراطية بشكلها الذي تطرحه، لا يعبر عن واقع حي، لأن تحقيقه يقرر تمتع الجميع بهذه الديمقراطية، وبما أن التفاوت بين البشر هو سمة الطبيعة، فلا أعتقد أن سعادة الفلاح لا تمر إلا عبر انتقاله إلى مصاف المالك الرأسمالي، وحتى وإن حدث ذلك، فسيكون على حساب آلاف الفلاحين غيره، ولا أظن أيضاً أن آمال العُمّال تقف عند اليوم الذي يمتلكون فيه المصانع، ففي النهاية لا بد للمعمل من عُمّال، وللأرض من فلاحين، ثم وإلى أي مدى يمكن الاتفاق مع مقولة إن «الجميع» يطالب بالديمقراطية؟ فالأغلب أن من يقع خارج السلطة، ومن لا يمارس الحكم هو من يطالب بها، فإذا كنا أكثر تحديداً قلنا أنها الفئة النخبوية، أي الأقل عدداً في المجتمع، والمتطلعة للوصول إلى الكرسي، فإن تحدثت من على منبره فيما بعد، فإذا هو باسم الجميع، ولكن الديمقراطية هي التي لعبت الدور الأوجه لتحقيق هذا الهدف الشخصي في المقام الأول! ومع ذلك، فليس جريمة أن يطمح المرء، ولكن لأن يؤكد بأن الحل كله، يقبع وراء ستار الديمقراطية، فهذا هو التضليل بعينه.

في السياسة هناك متطلبات للوظيفة القيادية، حتى في أكثر الأنظمة ديمقراطية، وهامش من التغيير ليس على القائد أن يتعداه، وإلاّ يكون قد دخل في إعادة هيكلية شاملة لدولته، بكل ما يعنيه ذلك من تبديل أنماط تحالفاتها، ومواقفها تجاه القضايا الدولية، ونزاعاتها مع الدول الأخرى، التي حتماً ما تكون قد تأثرت سلباً بما يحدث، والذي سيصحبه بطبيعة الحال صراعات داخلية، في إطار النظام السياسي نفسه، أي تدهور الأوضاع على جميع الأصعدة، ولتصبح المحصلة في هذا السياق، هو أن ما بدأ بتصحيح المسار انتهى بالدمار! وفي إطاره نقول، إن الرئيس جورباتشوف حين انتهج سياسته للتغيير، كان الهدف منها وباعترافه شخصياً، الحفاظ على دولته ومكانتها الدولية من التفكك، فجاءت النتائج بعكس النوايا، فهل تحسن اليوم الوضع الداخلي للمواطن الروسي، بالقدر الذي يعادل خسارته لقوة وهيبة اتحاده السوفيتي السابق، يوم أن كان أحد الأقطاب الثنائية العالمية مع الولايات المتحدة؟ وفي المقابل، ما موقف المواطن الياباني، في عدم طرح اليابان لنفسها كدولة فاعلة خارجياً، مقارنة بإمكانات بلاده الاقتصادية ورفاهية عيشه؟

على الحاكم أن يسعى لتحقيق نقطة «توازن» بين سياستيه الداخلية والخارجية، مع الأخذ في الاعتبار أن أولوياته إنما تنطلق من «الداخل» وليس من الخارج، وأن اتباع السياسة الخارجية التي فيها إنهاك للمقدرات القومية يؤدي إلى تآكل الأساس الداخلي، وحين تبدأ الجماهير بالتململ في مقاعدها، نتيجة انقطاع الكهرباء عنها، فهي عرضة لمن يلوح لها، ولو من بعيد، ببصيص قد تعتقد فيه النور، تحت أي شعار جاهز، ولكن الأعظم بؤساً من كل هذا، إنما يكون في انكماش الدولة خارجياً، بل والتقزّم الأكثر منه حتى في الداخل.