الأردن يبحث عن دور في صراع الأدوار

TT

لا أخترع البارود عندما أرشح المشرق العربي ساحةً لتحولات ومفاجآت قد تشكل موجات «تسونامي» جارفة في هذا العام.

لقد فاجأتنا موجات الـ «تسونامي» في عام 1967، وفي لبنان 1982، ثم في غزو صدام لإيران 1980 ثم غزوه الكويت 1990. هناك اليوم فيض هائل من الاحداث، وتدفق واسع في الأخبار، ثم فقر مدقع في التحليل والتنبيه. لقد تعودنا نحن العرب أن نموت في الصمت، قبل أن نتلاشى ونغرق في موج الزلازل والكوارث السياسية.

بات الإعلام عاجزا عن القيام بدوره في توعية الرأي العام بالخطر. فهو يكتفي بالجزء من الكل، ويقتصر على الصورة من دون التفاصيل والملابسات، اتقاءً لما يظنه حساسية وإحراجا، فتتراجع قدرته على تحليل المشهد بكامله والربط بين أجزائه.

لعل الأردن أكثر دول المنطقة استشعارا للخطر واستعداداً لمواجهته. وعندما أختارُ الحديث عنه، فليس لأنه عرضة للخطر أكثر من غيره، وانما لمجرد بيان وضعه في المنطقة المأزومة، والتطور الذي طرأ على موقفه.

لقد تعود الأردن في سياسته العربية والاقليمية أن يلتزم خط الدفاع والتكيف مع الظروف والأحداث، ويعمد إلى مسايرة جيران وأشقاء أقوياء. قامت سياسة الأردن التاريخية على الانشغال بالهم الفلسطيني ـ الاسرائيلي. ولم يكن استيعابه لمليوني فلسطيني وراء أطول حدود لبلد عربي مع اسرائيل والضفة المحتلة (710 كيلومترات) بدافع كاف للعرب لتقديم كل الدعم اللازم له، لسد افتقاره إلى مقومات الدولة ومواردها الضرورية وحاجاتها الدفاعية.

كان القصور العربي ناجما عن الاعتقاد بأن الأردن أنشىء ليكون «خط هدنة» فاصلا ومحايدا بين العرب واسرائيل، ولا ضرورة لدعمه! وأدى سوء الفهم والتفاهم إلى اضطرار الأردن لمسايرة بريطانيا ثم أميركا. وبعد وصول اليمين الاسرائيلي إلى الحكم، راح الأردن يتجنب إثارة حفيظة الحكومات الليكودية التي تبنت أحزابها مقولة أن الأردن، في ضفته الشرقية، هو الدولة الفلسطينية.

لم يعمل الأردن كثيرا لتبديد هذا التصور العربي خلال حكم مليكه المؤسس عبد الله الأول. ثم كان الملك حسين من الذكاء، بحيث استجاب لرجاء عبد الناصر بخوض حرب 1967 المرتجلة، فخسر الضفة الغربية، لكن أنقذ نظامه من غضب ضباطه. وعرف كيف ينقذه مرارا بعد ذلك، من تدخل سورية العسكري، وفوضى الكلاشنيكوف الفلسطينية. بل ساير العرب بالتخلي عن «شرعيته» الفلسطينية لعرفات «الممثل الشرعي الوحيد» للفلسطينيين 1974. مات الملك حسين في نهاية القرن، وفي النفس العربية عتب صامت عليه لمسايرته صدام في الكويت، ثم لأن الصلح مع اسرائيل بات، في رؤيتهم، حجر الزاوية في سياسة الأردن الإقليمية.

لم يخرج الملك عبد الله الثاني عن الثوابت الاستراتيجية التقليدية في السياسة الأردنية. ما زال الأردن وثيق الصلة مع أميركا وبريطانيا. ما زال حريصا على تجنب غضب اسرائيل تخوفا من مشروعها الأردني القديم. لكن حدث تطور ملحوظ على صعيد التكتيك. فقد انتقل الأردن من أسلوب الدفاع والمسايرة، إلى اعتماد الهجوم والمبادرة في سياسته الإقليمية.

اختير شعار التكتيك بدقة وذكاء. الأردن اليوم مدافع متحمس عن العروبة القومية، انطلاقا من غيرته الشديدة على عروبة العراق المهددة بـ«هلال شيعي» يخترق «الغالبية السنية» في المنطقة الممتدة من النهرين إلى البحر. أين الأردن «القومي» اليوم من حلف الخمسينات مع الأسلمة الإخوانية المؤمنة بوحدة إسلامية غير ممكنة عمليا، والمعارضة لوحدة قومية عربية مهددة للأردن آنذاك؟! ثم أين الأردن العروبي اليوم من شعاره الستيني (الأسرة الأردنية)، ثم من شعاره في التسعينات (الأردن أولا)؟!

أحسب أن تصدي الأردن للدفاع عن العروبة المهدَّدة ينبثق من عاملين اثنين: الشعور المتزايد بالثقة بالنفس والكيان، لكن هذه الثقة ممزوجة بخوف متزايد من اسرائيل ليكودية طامعة وراغبة في طرد أهلها إلى شرقها، ومن خوف من عراق محكوم غدا بنظام يغلِّب مسايرته المذهبية لإيران، على انتماء شيعته العربي.

الثقة بالنفس بددت هشاشة العامل الديموغرافي (أربعة ملايين نسمة). الخوف من الحصار دفع إلى المغامرة بالخروج من أسر الجغرافيا، وشن هجوم مبادر ومتطلع إلى لعب دور سياسي في المنطقة، حتى ولو أدى إلى التورط في صراع الأدوار.

إذا كان صعبا منافسة الدور المصري المتزايد الأهمية في «تعقيل» الفلسطينيين، وإذا كان التصدي للدور الاسرائيلي المدعوم أميركيا أكثر صعوبة، فمن البديهي الاستدارة نحو الدور السوري، انتهازا لمتاعبه الكأداء بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وبعد غياب الأسد الأب الذي حول سورية من أداة في الصراع، إلى لاعب كبير على مدى ثلاثين عاما في المنطقة. لماذا سورية أيضا وأيضا؟ لأنها تواجه أزمة مستعصية في لبنان مع حلفائها وخصومها القدامى، ولأن نظامها ربما يتطلع، في بعض الرؤى الأردنية إلى تمتين حلفه مع إيران، إذا قام نظام مشايع لإيران في بغداد.

الرغبة الأردنية قوية في قيام نظام صديق للأردن في العراق، ليس تخوفا من حلفه مع إيران وسورية فحسب، وانما لحماية مصالح الأردن الأمنية والاقتصادية. هناك 400 ألف عراقي في الأردن، بالإضافة إلى العلاقة القوية التي تربط العشائر الأردنية النافذة بالعشائر العراقية السنية. وقد يخسر الأردن، في حالة قيام نظام عراقي معاد له، 500 مليون دولار هي قيمة النفط العراقي الذي كان يحصل عليه قبل الاحتلال. والمبلغ يعادل قيمة المساعدة الاميركية للأردن سنويا.

غير أن المبادرة الهجومية انعكست سلبا على الوضع السياسي الداخلي. الهجوم يحتاج الى قاعدة داخلية صلبة.

كان لا بد من الاستعانة بساسة ورجال المؤسسة الحاكمة وديبلوماسييها الذين لا يُشك بولائهم، ويملكون جرأةً على المواجهة علنا، لا يملكها الساسة المحترفون، ولا نواب محافظون تشغلهم صراعاتهم المحلية عن خوض معركة النظام الخارجية. وصلت الجرأة بهاني الملقي وزير الخارجية الجديد، إلى حد توجيه النقد إلى سورية وهو في ضيافة لبنان الرسمي المتحالف معها.

انكماش التجربة الديمقراطية وتضاؤل نفوذ ومشاركة المؤسسة التشريعية المحافظة، بالمقارنة مع التدخل اليومي الأوسع للمؤسسة الحاكمة في شؤون سلطة الحكومة الإدارية، يجري علاجهما بطرح مشروع «التنمية السياسية والاقتصادية»، وهو حلم ملك شاب متحمس للتطوير، عبر تحسين المستوى المعاش للأردنيين، وتشجيع التصدير والاستثمار، وبتوعية الأردنيين السياسية بأهمية التناوب على السلطة من خلال شرعية صندوق الاقتراع. غير أني أشك في أن الشعار قابل عمليا للتطبيق في المدى المنظور، لأن المرجعيات التقليدية، من محافظة وعشيرية وأصولية، تحكم سيطرتها على الحياة الاجتماعية.

بل أجد صعوبة أكثر في فهم الحكمة من إسناد مهمة ليبرالية، كتشجيع التنمية السياسية، إلى المؤسسة الأمنية! وهي في الأردن مؤسسة محكمة التنظيم والدقة في الأداء والولاء، لكنها كنظائرها في جميع دول العالم، معروفة بتقليديتها المحافظة والانطوائية. كذلك، فإسناد مهمة مكافحة الفساد إليها، لم يمنع من سقوط أحد كبار رجالها، كسميح البطيخي، في قبضة العدالة بتهمة «تنمية» الفساد.

لا بأس، فحكومة فيصل الفايز تُعَوِّلُ على تشريع قانون انتخاب لا يسمح للاصولية الاخوانية وغيرها بتجاوز حجمها الشارعي، وقانون للأحزاب يحد من تناسلها وتكاثرها، ويمولها من كيس الدولة، كيلا تمد يدها إلى أكياس خارجية.

أخيرا، هل يتطلع الأردن إلى توسيع رقعته عبر الحدود، انطلاقا من هجمته السياسية والديبلوماسية، وتبنيه العروبة، واعتمادا على متغيرات و«سناميات» تجرف خرائط الجغرافيا والسياسة في دول الهلال الخصيب؟!

قد أكون مبالغا في تصوير أوهام طموح غير موجود، لا سيما إذا حجب القمر الإيراني شمس الحليف الأميركي التي تنسحب وتغرق رويدا رويدا في «تسونامي» دجلة والفرات.