في ظل وقفة عرفات: حداء في قافلة الشهداء

TT

المفتونون يأخذهم الصخب إلى لغو الحديث وليالي الحمقى. أحملق في السقف مخترقة حيزه الحجري إلى أبعاد في السماء وآماد في الأرض، أمارس عبادة التأمل، أستشعر الكلمة: مسلمة: كلمة؟ صفة؟ هوية؟ مسلمة. ملة أبينا ابراهيم،«... هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس». على نسق نفسه سمانا، تلفت في الكون فرأي الآية في الآفاق: «.. وله أسلم من في السموات والأرض»، كل شيء خاضع مستسلم له، وكلمته «كن» معها «كنت». ويكون الخضوع لذاته العلية وعيا بألا خضوع إلا «له» ، ويكون اسلام الوجه إليه: قوة لهذا الوجه.

يرتفع الوجه بإسلامه لله مجابها: العتو والبغي والطغيان. حنيفا مسلماً. على نسق نفسه سمانا، أبونا ابراهيم، وعلى الناس نحن الشهداء.

وجه «هاجر» لا يفارقني، نحيلا، أسمر، وسيما، صابرا، مشرقا. يأخذك النبي يا هاجر زوجة، شجرة بواد غير ذي زرع، يغرسك ويتركك ـ تقفين بنحولك، مصرية، تتساءلين: «ابراهيم أين تذهب وتتركنا... آلله أمرك بهذا؟ إذن لا يضيعنا».

القيظ، الظمأ، وسبعة أشواط بين مرتفعين في الهجير، ومملكة البيداء أطرافها السراب، واسماعيل، رضيعاً، بين الموت والمعجزة، وأنت يا هاجر مع اليقين، مع الإسلام لا زلت تسبحين: «إذن لا يضيعنا».

أ من الهجرة اشتقت اسمها أم أخذنا الهجرة من هاجر؟ اجتمعت الهجرة وهاجر وصاحبهما: الهجير.

لم يكن فرعون قط هو مصر. هي الأرض «مصر»: «لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون»؟ أتكون مصر وجه هاجر أم: وجه فرعون؟ أ نحتار؟ ومن بيتها في الجنة يطل وجه آسيا يغنينا «... ونجني من فرعون وعمله..».

مسلمة من مصر: هاجر أم اسماعيل.

مسلمة في مصر: آسيا حاضنة موسى.

مسلمة لاجئة إلى مصر. مريم بولدها عيسى.

«... وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا..».

فعبر الزمان تم الاقتران: إسلام ومصر : «... وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا...».

أينعت شجرة هاجر بين البيت وزمزم، فتمهلي بالسير يا إبل الطريق، وتريثي عند الشفق. صدق «الكلام» وما انمحى منذ الأزل: «وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم».

حداء، حداء، ونقر دف من بعيد: أسعد الأيام، أجمل الزمن، أكثير على القلب الفرح والقرن السابع يأتي فيه «محمد»؟ مصابرة ورباط، حصار في شعب أبي طالب وجوع، هزيمة في «أحد». طيور جارحة تتحلق، أحزاب تتحالف على بغض «محمد»، بأبي أنت وأمي وفداؤك روحي يا «محمد».

«محمد» يرقب صحبه: «... هذا ما وعدنا الله ورسوله ..» النصر غير بطيء لكنه الإسلام يمتحن : «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا...».

حوَّمى يا طيور الزمان الجارحة، وبالصليل قرقعي، وبالصريخ، وانهشي بالظلم وجه الحق، وازدردي الحرام.

أجنحة تتواصل. ظلمات متراكمة. طيور حدأة تتلبد. سماء مطبقة، وساحة الصبر فسيحة.

شهيقاً: إسلام، زفيرا، إسلام، هكذا حال المسلم. تهدأ العين وتقر إسلاماً يقود صاحبه إلى:« وادى الجمر». جهاد نفس تتحضر بالاسلام، تتجول بالإسلام، تغتسل من الأنانية والجشع والهوى، تستعبد الشهوة وتحجمها تحت إمرة الإرادة.

يسطع فينا الإيمان، ضفيرة بلور تمتد حبائل رحمة، ترفعنا من حر الضيق. نخرج من جوف الوحشة بدعاء حبيس الحوت: «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين». أسمع هسهسة من ريح الجنة. نسمات الحق السامق. مع عبق المسك يأتي الشهداء، بوجوه كفلق الاصباح. يأتونني: هل أنت حزينة؟ يربتون على كتفي، يبتسمون، يأتون من قلبي كلما استشعروا لي القنوط، يصعدون إلى حيث أراهم شموساً بنداء الوعد «فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون..»

يهبط صدري ويرتاح الزفير. يحممني نهر الحزن الأخضر، يقتلع أعشاب القنوط السوداء، اغتسل من قيد اليأس الملتف. منتعشاً يطفو قلبي: أما رأيتكم تخرجون كأسراب البجع المسحورة تنتفضون أناساً؟ يقينا كنت أراكم بأعناق الحق الناصعة، وكنت منحنية إلى نفسي وهي تتفطر إلى ربي أردد: «إن الباطل كان زهوقا»، «إن الباطل كان زهوقا». تسطع فينا الشمس. يسطع فينا الحق. يسطع فينا الحب. يسطع فينا الإيمان ضفيرة بلور، وكيف يمكن أن يسطع فينا ولا يكون الميلاد: سطوعاً مشابها؟