أبو مازن.. واقتباسات اضطرارية من السادات وعرفات

TT

جاء فوز محمود عباس متوقعاً ومبهراً في الوقت نفسه. ومن الطبيعي عندما يلقى اختياره هذا الإجماع الرسمي العربي والدولي عليه، ان يكون هناك اندفاع فلسطيني في اتجاهه. وهذا ما حدث وإن كانت «حماس» اعتبرت الفوز باهتاً، على اساس ان ما حصل عليه محمود عباس كان 65 في المئة من 60 في المئة من الناخبين، وهذا يعني ـ والرأي للشيخ حسن يوسف احد قياديي «حركة حماس»ـ ، ان الدعوة الى مقاطعة الانتخابات لقيت تجاوباً ملحوظاً. كما ان مدققين من داخل اللجنة الانتخابية قالوا بعد ذلك، ان نسبة الانتخابات لم تتجاوز 45 في المئة من مجمل الناخبين، وان الذي ناله محمود عباس وعلى نحو ما تم ابلاغه به رسمياً يوم الاربعاء 12 يناير الحالي، كان 62.52 في المئة من الاصوات، مما يقلص الى حد كبير من حجم التفويض الذي حصل عليه. وبصرف النظر عما اذا كانت «حماس» جيَّرت أم لم تجيِّر جزءاً من الـ 153516 صوتاً التي نالها المنافس مصطفى البرغوثي، فإن الرجل يستطيع القول انه خاض المعركة من دون دعم اي من الذين ناصروا محمود عباس عربياً ودولياً واسرائيلياً، ومن دون ان تكون «حماس» حازمة في موقفها تجاهه، ومن دون ان يكون المستقلون على بيِّنة من امرهم، بمعنى ان هذه الاجواء الترحيبية الاستباقية بمحمود عباس من كل حدب وصوب، قد تُحقق للقضية شيئاً، في حين ان استقلالية البرغوثي مع تقديرهم لها، لن تفيد في شيء، خصوصاً ان ما يطرحه البرغوثي، وهو «التمسك بقرارات مؤتمر مدريد والشرعية الدولية»، في وجه ثوابت محمود عباس، وبالذات ما يتعلق بتنازلات اوسلو، ستعيد المداولة على مستوى القوى الكبرى الى الوراء، فيما المطلوب خطوة الى الأمام.

في ضوء واقع الحال، كيف يمكن للحالة الفلسطينية الجديدة ان تصمد، اذا كانت «حماس» واستناداً الى نظرة احد كبار قادتها الدكتور محمود الزهار، ستبقى تُلقي المزيد من علامات الاستفهام، وستبقى ناقدة للسلوك ومشككة في النتائج، ولا تتوقع مردوداً ايجابياً في اسرائيل؟ وكيف السبيل الى انهاء عسكرة المقاومة، اذا كان رأي الزهار هو: «إننا سنسأل أبو مازن عن الجهة التي ستحمي الفلسطينيين من الاجتياحات التي سيشنها الاحتلال ومن سيحمي البيوت والاشجار والحدود؟ اذا كان هناك من سيحميها فسنشاركه في ذلك، لكن طالما بقي الاحتلال وبقيت الارض محتلة وتتعرض للعدوان فلا يستطع احد نزع سلاحنا..»؟ وكيف بالثقة «الحماسية» التي يمكن ان تتطور الى حد المشاركة في حكومة جديدة، اذا كان محمود عباس الرئيس في نظر الزهار هو غير محمود عباس الذي جاء فوزه يبهر كل قادة العالم. وما يراه الزهار يتمثل بقوله: «ان ابو مازن لا يملك تفويضاً لوقف المقاومة ضد الاحتلال، واذا اراد تفويضاً فعليه ايجاد وسيلة لسؤال الفلسطينيين خارج الارض المحتلة، وليس في الضفة وغزة فقط، ذلك ان اكثر من نصف شعبنا في الخارج، ومن ينجح سيكون رئيساً للسلطة فقط. هذه ليست انتخابات رئاسة دولة، وانما انتخابات من اجل ادارة شؤون السلطة الداخلية...».

الاجابة عن ذلك هي في احد احتمالين: إما ان يستخدم محمود عباس الكثير من حذاقته مستحضراً في ذلك بعض مفاهيم عرفات واساليبه في تقليم مخالب الآخرين، ويتمكن من إحداث انشقاق في صف «حماس»، كتلك الانشقاقات في كل الفصائل الفلسطينية، التي كانت لعرفات أنامل خفية فيها، وبذلك تصبح له «حماسه» التي يتكئ عليها وتفيده في منافع اخرى. وإما أن يتسلح بإنجاز تنموي ووطني، ولو جاء يفتقر الى السخاء من جانب ادارة الرئيس بوش والاتحاد الاوروبي والاقتدار العربي، ويضرب في هذه الحال «حماس» على نحو ما فعل الرئيس انور السادات، بعد اقل من ستة اشهر، بأقطاب الحقبة الناصرية الذين رماهم في السجن بتهمة التآمر عليه وعلى قضايا الشعب على حد ترويجه للحيثيات. وبعدها حَكَم وحيداً، وحارب على نحو ما يريد، ثم صالح ايضاً على النحو ذاته، ثم دفع حياته ثمن هذا السلوك، الذي لم يأخذ بأصول التعامل مع القضايا الكبرى، مفترضاً ان الوعود التي حصل عليها من اميركا عن طريق وسطاء الوقيعة، من شأنها ان تجعل عضلاته لا ترتخي وهامته لا ترتجف.

أما الحل الثاني، فهو في اعتبار نفسه «كبير العائلة» الفلسطينية بالمفهوم «العباسي»، وليس بالمفهوم «الساداتي»، ليدعو الذين نافسوه وكذلك الذين قاطعوه، الى المشاركة في التجربة التي سيخوض دروبها الملأى بالالغام، وبحيث يكون شخص مثل البرغوثي وزيراً للخارجية، خصوصاً بعد ما اثبت مسألة اساسية، وهي ان البرنامج وما يحويه من مضامين، له الاهمية نفسها التي لهذا الفصيل او ذاك، وما هو مخزون لديه من اسلحة، ويكون خالد مشعل وتيسير خالد وآخرون كثيرون، اصحاب مسؤوليات رسمية في التجربة المشار اليها. ألم يلجأ شارون الى هذه المعادلة، وارتضى بموجبها شيمون بيريز، ان يكون «الوزير الأرفع مرتبة في الحكومة»؟ وحتى اذا كان هنالك رفض من هؤلاء، فإن الرجل يكون اجتهد وله الكثير من الأجر عند ربه ولدى الشعب الفلسطيني.

لكن تبقى مسألة العنف وكيف يتوقف، فلا يعود مصراً على موقفه من يرى ان العملية الاستشهادية العشوائية داخل المقاهي والمطاعم ومحطات «الباصات» تقرِّبه من تحرير الوطن، ولا يعود الشارونيون على استعذابهم للقتل والتدمير والاغتيال، وهي اساليب استأنفوا اعتمادها لمجرد ان انتهى الأحد الفلسطيني بالفوز المتوقع لمحمود عباس. وفي هذه الحال وما دامت هنالك مشاركة من الجميع في التجرب، فإن العمليات، عدا التي تستهدف قوات الاحتلال فقط، لن تحدث. واذا افترضنا ان الشارونيين ربما يستخدمون فلسطينيين لهذا الغرض، يغرونهم ثم يفجَّرونهم امام اهداف معيَّنة، فإن النفي سيكون جاهزاً وسيلقى التصديق، خصوصاً ان التقليد الذي كان متَّبعاً هو المسارعة الى الكشف بالصوت والصورة من جانب «حماس» او «الجهاد» او «كتائب شهداء الاقصى» للاستشهادي او الاستشهادية. وحسماً للأخذ والرد في هذا الشأن، فإن اللجنة نفسها التي ترأسها جيمي كارتر، وشهدت بنزاهة انتخابات الرئاسة الفلسطينية، يمكنها ان تستأنف المهمة بمشاركة جنرالات نزيهين وتُصدر، بافتراض اقامة مركز لها داخل الاراضي الفلسطينية، تقريراً تقول فيه: هذا الطرف هو المعتدي وذاك هو المعتدى عليه. وفي هذه الحال تقف الادارة البوشية التي تقول انها ستفعل ما لم تفعله في ولايتها الاولى، وتقف دول العالم معها، ومن خلال مجلس الأمن، ضد المعتدي ومع المعتدى عليه، وهو الموقف الذي اتخذه الجنرال ديغول بالنسبة الى حرب 5 يونيو 1967، وكان بموجبه حكيماً وعلى خُلق سياسي عال.

ونعود الى ما بدأناه حول التمني، لو أن محمود عباس الذي فاز كان من القدس، وكان من مواليدها ايضاً البرغوثي الذي حل ثانياً، او الآخرون الذين نزلوا الى الحلبة، وبذلك بدا المشهد الديمقراطي الفلسطيني على كثير من الرقي. والذي يثير الاعجاب هو أن وراء هذا المشهد الكثير من الدم المراق والدمار، ومواكب الشهداء والاغتيالات والقهر والاذلال، والمعاناة طوال نصف قرن، ممهورة سنواته بالاستهانة الدولية التي هي حلقة من مسلسل التآمر على الامتين. اما لماذا هذا التمني، فلأن هذا الأمر كان سيجد طريقه الى الوجدان وسيستفز الشارونيين، الذين يرون ان القدس قُدسهم، ولا مجال حتى لابنها البار ياسر عرفات التمدد هانئاً بعدما اسلم الروح بين حبات ترابها، فكيف لرئيس يواصل من بعده وعلى هدي وصيته. ونقول ذلك من دون ان ننسى ان ابناء العواصم، نادراً ما باتوا رؤساء. فهذا جمال عبد الناصر من «بني مر» في قلب الصعيد، وهذا حافظ الأسد من «القرداحة» على الساحل السوري، وهذا انور السادات من المنوفية و.. و.. القائمة طويلة. ويبقى ان ما اوردناه هو بعض التأملات، في انتظار عودة التعقل الشاروني والوعي الاميركي، رداً على احتمال استعادة الفلسطينيين الحكمة... وهذا ما بدأوه يوم الاحد 9 يناير 2005 ومن مصلحتهم ومصلحة العالم ان يدوم طويلاً .