الهدنة المطلوبة: البيت الفلسطيني بين عباس وحماس

TT

لم يكن من السهل البتة أن تتوصل الفصائل الفلسطينية وأجنحتها العسكرية الى اتفاقية «الهدنة المؤقتة» من طرف واحد منتصف عام 2003. ولم يكن من اليسير قط أن تتمتع قوى التيار الإسلامي الفلسطيني ، بهذه الدرجة العالية من الانضباط والتناغم مع القرار السياسي بشأن الهدنة، والذي تم اتخاذه لاعتبارات المصلحة الفلسطينية أولاً وأخيراً. ومع هذا، فقد وضع التسخين الإسرائيلي آنذاك بعد سلسلة عمليات الاغتيال التي استهدفت القيادات السياسية للتيار الإسلامي الفلسطيني، والاختراقات الإسرائيلية المتكررة للهدنة المؤقتة، وضع مجمل الحالة العامة داخل فلسطين والمنطقة في مهب رياح التطورات العاصفة، وربما التطورات الدراماتيكية التي أفضت إلى نوع من المواجهة الشاملة الجديدة، على غرار المواجهات التي تمت إبان عملية «السور الواقي»، التي نفذتها قوات الاحتلال ضد بنى ومفاصل الأجنحة الفدائية الفلسطينية، وخصوصاَ كتائب القسام، والأقصى وسرايا القدس، التابعة لحركة الجهاد الإسلامي في النصف الأول من العام، وصولاً الى اغتيال الشيخ أحمد ياسين بعد اطلاقه سلسلة من التصريحات الواقعية، التي تحدث فيها لأول مرة عن استعداد حركة حماس للقبول بالحلول «المرحلية»، ومباركته للهدنة المؤقتة. ومما لا شك فيه أيضاً أن السلوك الإسرائيلي والتسخين المتوالي ، قد تسبب في نسف الهدنة المؤقتة، وأعاد بالضرورة إنعاش النقاش الداخلي الفلسطيني بشأن العمل المسلح، ودور الأجنحة العسكرية انطلاقاً من قوة الرأي، الذي يشير بضرورة إبقاء الأجنحة العسكرية وتراجع الموقف الداعي لتفكيكها وإحالتها على التقاعد، باعتبارها قد استنفذت المهام المطلوبة منها، وأنها «أضحت عبئاً» على السلطة وحركتها السياسية على المستوى الدولي.

ولا شك أيضاً بأن السلطة الفلسطينية كانت أكثر الأطراف تأثراً بسقوط الهدنة، حيث لم يكن من السهل التوصل الى توليد إجماع فلسطيني على مسألة الهدنة، في ظل المواقف المتباينة لمختلف ألوان الخارطة السياسية الفلسطينية، بما في ذلك داخل حركة فتح التي تمثل حزب السلطة، وتتمتع بجناح عسكري يتصدر قوى المقاومة. عدا عن أن الانهيار السياسي التفاوضي مع سقوط «الهدنة المؤقتة»، وسع من مساحة التباين «التكتيكي»، وتباين الخلاف والأداء السياسي، بين مفاصل السلطة آنذاك، وأفضت الأمور إلى نوع من الاحتكاك السلبي بين اتجاهين: اتجاه يولي العملية السياسية التفاوضية جل اهتمامه ويعلق عليها الآمال، وبين اتجاه قواعد حركة فتح الشبابية ومن أبناء المخيمات في الضفة الغربية وقطاع غزة، المنحازة بأغلبيتها إلى خط كتائب شهداء الأقصى، والتي ترى بأن تفكيك بنى المقاومة تحت عنوان وقف العسكرة، والقبول بالهدنة الجديدة، يجعل من الانتفاضة «سلحفاة بدون غطاء عظمي».

وفي اللحظة الراهنة، فان صعوبة التوصل الى هدنة جديدة «مع أهمية التوصل اليها»، يعادل صعوبة إعادة عقارب الساعة الى الوراء، من دون بوادر نوايا ايجابية من حكومة شارون وائتلافه العتيد، المنتظر تشكيله مع حزب العمل الإسرائيلي فنجاح الهدنة التي يسعى اليها محمود عباس، مشروط بالتزام الطرف الإسرائيلي ووقف عمليات الاغتيال، وفي هذا المجال فان الإدارة الأمريكية وحدها، هي من يملك أدوات الضغط الفعالة على ائتلاف حكومة شارون / بيريس، لدفعها نحو الالتزام بمستوجبات الهدنة «العتيدة» التي يتواتر الحديث بشأنها.

فقد عرقل سقوط الهدنة المؤقتة السابقة وانهيارها ، بالضرورة عمل الحكومة الأولى التي شكلها محمود عباس في حينه، ووضعها في موقف حرج أمام الشارع الفلسطيني، الذي ضاق ذرعاً من أعمال القتل والاغتيالات الإسرائيلية من جانب، وعزز من نفوذ المفاصل العسكرية لحركة فتح وبعض الأجهزة التنظيمية والأمنية للسلطة وقوى التيار الإسلامي الفلسطيني من جانب آخر.

ومع هذا، فان التفاؤل بإمكانية التوصل الى هدنة جديدة يبقى أمراً واقعياً، تبرره خطوات كبرى فصائل المقاومة المسلحة، ونعني بها خطوات حركة حماس المدروسة والمستخلصة من عصارة تجربة الأعوام الأخيرة، خصوصاً بعد أن فقدت حالات مؤثرة من قياداتها الأولى المؤسسة لها، واقتناعها الكامل بأن مرحلة جديدة قد بدأت مع رحيل الرئيس ياسر عرفات. ولذا فهي تسعى لتكريس وتطوير وجهة نظر سياسية، تَظهر من خلالها على أنّها عرفت كيف تقيم المزج القائم على إحداث التوازن الضروري، بين ثوابتها في الصراع مع الدولة العبرية، وبين البراغماتية السياسية، التي يزداد الميل نحوها مع ضرورات الواقع السياسي الفلسطيني الجديد، في فضاءاته الإقليمية والدولية شديدة التعقيد.

وخلاصة القول، إن التوصل الى هدنة جديدة، وترشيد العمل الفلسطيني المقاوم، لا يشكل مثلباً أو انتقاصاً من صدقية قوى الانتفاضة، بمقدار ما يعزز من مساحات الأبواب المفتوحة أمام العمل الفلسطيني، بدلاً من الاختناق عبر الممرات الضيقة.

* كاتب فلسطيني، عضو اتحاد الكتاب العرب