لا كل شيعة العراق مهادنون.. ولا كل السنة متطرفون

TT

الفوضى ضاربة الاطناب في العراق حجبت عن الأعين جهود الاحتشاد الوطني الحاصلة هناك، بقدر ما ان ممارسات الغلاة وضجيجهم صرفت الانتباه عن اصوات العقلاء وتحركاتهم، الأمر الذي أوصل الى المستقبلين خارج العراق صورا مشوهة لما يجري في الداخل، وظنها كل طرف حسب مصلحته وهواه. أسهم في ذلك الى حد كبير التعتيم الاعلامي، الذي تفرضه السلطات الاميركية بوجه أخص، والذي بمقتضاه تمنع وسائل الاعلام من دخول أماكن بذاتها (الفلوجة مثلا)، كما انه يتم التحكم بما ينشر أو لا ينشر من اخبار المواجهات اليومية، التي تشهدها مختلف انحاء البلاد. وقد حقق هذا الاسلوب نجاحا نسبيا في تشويه صورة المقاومة العراقية، بحيث ارتبطت في الاذهان بعمليات قتل العراقيين وترويعهم، واختطاف بعض المدنيين وقطع رؤوس نفر منهم، وإحراق الكنائس، وغير ذلك من الممارسات التي تبعث على النفور والاستياء، وتوحي بأن العراق مرشح للانفجار في كل وقت، ناهيك عما يقال عن احتمالات تمزقه وانفصاله، كأنما صار البؤس قدرا له، في وجود صدام حسين ونظامه أو في غيابهما.

هذا الذي تسلط عليه اضواء الاعلام حاصل بالفعل، وليس من نسج الخيال، ولكن يظل يمثل جانبا من الصورة وليس الصورة كلها، واذا كان الاميركيون يتحدثون عن 86 عملية للمقاومة في المتوسط كل يوم (مصادر المقاومة ترتفع بالرقم الى اكثر من مائة)، فإنك اذا جمعت كل حوادث الاعدام وتقطيع الرؤوس وتفجير الكنائس وغير ذلك من الجرائم التي ترتكب باسم المقاومة، فإنها لن تزيد على حصيلة يوم واحد أو يومين من العمليات، وهو ما يثير العديد من التساؤلات حول طبيعة العمليات الاخرى المسكوت عليها.

لا أريد أن أهون من شأن الجرائم التي ترتكب باسم المقاومة، (بعضها لا يعرف فاعلها الحقيقي)، لأن رفضها وإدانتها واجبة، حتى اذا كانت تعادل حصيلة نصف يوم، ولكنني فقط اردت ان الفت الانتباه الى ان ثمة جانبا آخر من الصورة ايجابي ومقدر يحجب عن الاعلام، على نحو يكاد يقطع بأن تسليط الاضواء على تلك الجرائم مقصود، وان المراد به تشويه حقيقة المقاومة واثارة المشاعر ضدها، وتيئيس الناس منها. ولا تنسى في هذا الصدد ان السلطات الاميركية استخدمت منذ بداية الاحتلال، مختلف اساليب التضليل الاعلامي في العراق لتحقيق اغـراض مختلفة. وهو ما تحدثت عنه صراحة الصحف الاميركية. (انظر مثلا ما نشرته نيويورك تايمز في 13 ديسمبر الماضي).

خذ على سبيل المثال نموذج «المؤتمر التأسيسي» الذي اجتمعت في اطاره مختلف القوى الوطنية في العراق، وأعلن رفضه للاحتلال ومؤسساته. في إطار المؤتمر اجتمع السنة والشيعة والمسيحيون والاكراد والتركمان، والقوميون والشيوعيون والمستقلون باختلاف تمايزاتهم، حتى وصل عدد التجمعات والاحزاب التي شاركت فيه الى 35 فصيلا، يمثلون اوسع شريحة من الشعب العراقي، واذا لاحظت ان هيئة علماء السنة قامت بدور اساسي في الدعوة الى انعقاد المؤتمر، فلا تفوتك ملاحظة ان الامين العام للمؤتمر هو آية الله محمد جواد الخالصي، إمام الروضة الكاظمية في بغداد، وأحد مراجع الشيعة العرب، كما ان آية الله احمد الحسني البغدادي احد المراجع المعتبرة في مدينة النجف، بدوره يعد عنصرا بارزا في ذلك التجمع، كما ان التيار الصدري له حضوره المهم في اطاره.

هذا التجمع الوطني المهم حدد موقفه من مختلف ملفات الساحة العراقية على النحو التالي:

* معارضة الاحتلال وعدم الاعتراف بالمؤسسات التي انشأها، ومن ثم عدم التعاون معها.

* تأييد المقاومة المشروعة للاحتلال، وادانة اختطاف المدنيين الابرياء أو قتلهم.

* المطالبة برحيل القوات الغازية، عن طريق تحديد موعد لذلك الرحيل، بمقتضاه تنسحب القوات الاميركية والمتحالفة معها خلال فترة زمنية معلومة للكافة.

* تقبل فصائل المؤتمر التأسيسي بالمشاركة في السلطة اذا تم ذلك تحت إشراف الامم المتحدة.

* مقاطعة الانتخابات التي تجرى في ظل الاحتلال وفي ظل عدم تحديد موعد لإنهائه.

* الرفض القاطع لأي مساس بالكنائس أو أي اماكن مقدسة اخرى لدى الشيعة.

ذلك كله ـ على اهميته البالغة ـ يجري التعتيم عليه، في حين تسلط الاضواء اما على مرجعية شيعية مهادنة للاحتلال، ومحبذة للمشاركة في الانتخابات مثل آية الله السيستاني، أو رموز متطرفة مثل أبو مصعب الزرقاوي وجماعة التوحيد والجهاد التي يقودها. كأن العراق ليس فيه غير شيعة مهادنين وسنة متعصبين ومتطرفين، وهذا منتهى التغليط والتضليل. لأنه ليس كل الشيعة مهادنين، وليس كل السنة متطرفين، كما رأيت توا، وانما مطلوب أن يبرز ذلك الوجه فقط في الساحة العراقية، لأسباب لا تخفى على احد.

سوقت الابواق الاميركية والموالية لها هذه الفكرة طيلة الاشهر التي خلت، حتى انطلت على البعض في بلادنا ممن تسابقوا في هجاء المقاومة والتشهير بها، ووصفها بأنها «إرهاب» والنيل من هيئة علماء المسلمين، التي اسماها احدهم «هيئة علماء الخاطفين». ويبدو ان الاميركيين أوهموا انفسهم بصدق هذه الادعاءات، لأنهم افاقوا اخيرا وادركوا خطأهم، وقرأنا عن الانتقادات التي نشرت في الصحف الاميركية للاستسلام للاكاذيب، وتجاهل حقيقة ان هناك مقاومة وطنية في العراق، ليست كلها ارهابا ومتسللين من الخارج، أو فلولا للنظام السابق الذي لا سبيل لعودته، بعد ان طويت صفحته الى الابد.

لم يخل الامر من مفارقة، لأن بعض الابواق ما زالت تتحدث عن المقاومة، باعتبارها ارهابا، في حين ان الاميركيين اعترفوا بأنها حقيقة وطنية، لها وجودها على الارض، حتى ان الادارة الاميركية أوفدت الى بغداد من يمثلها للقاء هيئة علماء المسلمين (الخاطفين؟!)، ومناقشتهم في مسألة مشاركة السنة في الانتخابات القادمة (30 يناير). ولولا ان الهيئة اصبحت لاعبا رئيسيا في الساحة العراقية، ليس فقط على صعيد تمثيل اهل السنة، وانما ايضا لكونها صارت ركنا مهما في المؤتمر الوطني التأسيسي، لما خصها القادمون من واشنطن لمحاولة اقناعها بالمشاركة في الانتخابات.

من المصادفات اللافتة للنظر في هذا الصدد، انه فيما كانت قيادة الهيئة ممثلة في الشيخ حارث ضاري، وامانة المؤتمر التأسيسي ممثلة في آية الله الخالصي، وفيما كانت اصوات الجهتين تطالب بتحديد موعد لانسحاب القوات الاميركية، كشرط للمشاركة في الترتيبات السياسية الجارية، فإن اخبار واشنطن حملت الينا حديثا متواترا داخل الادارة الاميركية، حول موضوع الانسحاب من العراق. صحيح ان شيئا محددا لم يتبلور بعد، ولكن ما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» يشير بوضوح الى ان الملف قد فتح، وان ثمة حوارا حوله، محوره كلفة استمرار 150 الف جندي اميركي في العراق (4.5 مليار دولار شهريا)، والأجل المفترض لوجود تلك القوات هناك ـ ثم «السيناريوهات» المختلفة لما يمكن ان يحدث بعد الانسحاب.

والذي لا شك فيه ان ذلك الجدل ما كان له ان يثار، لولا ضغوط المقاومة العراقية التي رفعت من كلفة البقاء والاستمرار. وأقنعت الاميركيين بأنهم استقبلوا بما لم يتوقعوه. وبخلاف ما صورته لهم العناصر العراقية الموالية لهم، والتي اصبح نفوذها ووجودها معلقين على استمرار بقاء الاميركيين في البلاد.

ان تجربة مؤتمر العراق التأسيسي، والجهود الموازية لها، مثل إنشاء جماعة علماء العراق الموحدة (التي ضمت ممثلين للسنة والشيعة)، تبعث الى الذين يستخفون بالعمق الحضاري في العراق، ومن ثم بالعقل الراشد فيه برسالة بليغة، تهون من شأن الاهوال التي يصورونها، اذا ما انسحب الاميركيون من البلاد، علما بأن اولئك العقلاء الرافضين، يتحدثون عن مجرد تحديد موعد واضح للانسحاب، وعن تمثيل للامم المتحدة يرعى تنفيذ ذلك الجدول، الذي يستصحب انتقالا تدريجيا للسلطة، ولا يبالون بما اذا كانت الانتخابات ستسفر عن حكومة شيعية أم لا، لأن المهم عندهم ان تكون حكومة وطنية مختارة بإرادة شعبية حرة، مبرأة من ضغوط الاحتلال وألاعيبه.

إن العراقيين الذين فاجأوا الاحتلال بمقاومة له بأسرع مما توقع الجميع، قادرون على ان يكرروا المفاجأة، فيقيموا نظاما وطنيا ثابت القدم ،اذا ما انسحب الغزاة، واذا ما نجح الاشراف الدولي في افساح الطريق امام الوطنيين المخلصين لتولي زمام الامور، ومن ثم طي صفحة الحزن والالم، الذي طال امده حتى بدا ليلا لا فجر له..!